لا تعليق
نعاني – أحيانًا – من ضغوط العمل، ومشاغل الحياة، وتشتّت الذّهن، وتراكم الأعباء؛ فيتوجّه بعضنا إلى صديق حميم لكي (يُواسيه أو يُسْلِيه أو يتوجّع)، وبعضنا يسافر إلى بلد ليستجمّ فيه، فإذا عاد منه عادت حياته كما كانت، وبعضنا يلجأ إلى وسائل التّرفيه كالقنوات والإنترنت ونحوها ليتناسى واقعه، وبعضنا يستسلم لتلك الضّغوط والمشاغل فتسري إليه الأمراض، وتضعف قواه ويبدأ الشّحوب على محيّاه.
لكن كم الذين إذا واجهوا تلك الظّروف والأحوال ساروا إليه بأقدامهم، فجلسوا فيه، وقضوا أوقاتًا بين جنباته، فأحسّوا أنّ طاقة تتولّد بداخلهم، وأنّ أملاً وسعادة تملأ جوانحهم؛ فتنقشع سُحب الغموم، ويزول ضباب الهموم، ويصفو الذّهن ويتجدّد النّشاط؟
كم الذين يمكثون في المساجد قبل الصّلاة أو بعدها ليقضوا فيه أوقاتًا يناجون فيها ربّهم، ويقرؤون كتابه، ويذكرونه ويسبّحونه، ويتفكّرون في آلاء الله ونعمه عليهم؟
إنّ في علاقة الكثير منّا بالمساجد جفاء؛ إذ لا يأتونها إلاّ ملزمين لأداء الصّلوات المفروضة التي لا تكاد تنقضي إلاّ ويسارعون للخروج، لكن كم الذي يأتون إلى المساجد ليس لأداء الصّلوات فحسب، بل ليمكثوا فيها ما شاء الله لهم أن يمكثوا؟
لقد رفع الله تعالى مكانة المساجد ومدح سبحانه الذين يرتادونها ويتعلّقون بها فقال جلّ وعلا: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ، رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [النور: 36-38]
قال ابن كثير رحمه الله: “فقوله: (رِجَال) فيه إشعار بهممهم السّامية، ونيّاتهم وعزائمهم العالية، التي بها صاروا عُمَّارًا للمساجد، التي هي بيوت الله في أرضه، ومواطن عبادته وشكره، وتوحيده وتنـزيهه، كما قال تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ). [الأحزاب: 23]. ثم قال رحمه الله: “يقول تعالى: لا تشغلهم الدّنيا وزخرفها وزينتها ومَلاذ بَيعها وربحها، عن ذكر ربّهم الذي هو خالقهم ورازقهم، والذين يعلمون أنّ الذي عنده هو خير لهم وأنفع مما بأيديهم؛ لأنّ ما عندهم ينفد وما عند الله باق”.
فما ظنّك –رعاك المولى- برجل ذهب إلى بيت من بيوت الله يرجو ما عند الله، كيف سيعامله الله؟ كم من المنح الربانيّة ستأتيه؟ وكم من الرّحمات ستغشاه؟ وكم من الفضل سيتنزّل عليه؟ قال عمرو بن ميمون رحمه الله: “أدركت أصحاب رسول الله وهم يقولون: المساجد بيوت الله، وإنّه حقٌّ على الله أن يكرم من زاره فيها”.
ومن إكرام الله تعالى لمن يمكث في المسجد ينتظر الصلاة أن يُجري عليه أجر الصلاة كأنه قائم يُصليها، وكذلك أن يُسخر له الملائكة لتدعو له بالمغفرة والرحمة، فما أعظمه من كرم إلهي، وما أوسعه من فضل رباني، في مقابل عمل يسير. قال النبي r : ” لا يزال أحدكم في صلاة ما دام ينتظرها، ولا تزال الملائكة تُصلي على أحدكم ما دام في المسجد: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، مالم يُحدِث” رواه الترمذي وأخرجه البخاري بنحوه. قال ابن بطال: “من أراد أن تُحط عنه ذنوبه من غير تعب فليغتنم ملازمة مصلاه بعد الصلاة ليستكثر من دعاء الملائكة واستغفارهم له”.
ومن الشّرف العظيم والأجر الجزيل الذي وهبه الله تعالى للمعلّقة قلوبهم بالمساجد أن جعلهم من الأصناف السّبعة المصطفاة يوم القيامة الذين يستظلّون بظلّ عرشه سبحانه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه، ففي الحديث المتفق على صحّته قال النّبيّ r: (سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه)، وذكر منهم (ورجل قلبه معلّق في المساجد) تأمّل قوله r: (معلّق في المساجد) وليس: معلّق بالمساجد، فكأنّ قلب ذلك الرجل في المسجد فإذا خرج منه لم يهنأ بحال، ولم يتلذّذ بجمال؛ لأنّ قلبه الذي يستشعر به الأشياء من حوله ليس معه بل استودعه جنبات مسجده، فهو يتحيّن أوقات الصلاة ليُسارع إليه، بل ويهتبل كلّ وقت ليذهب إليه، فإذا دخله عاد إليه قلبه، وسمت روحه إلى ربّ البيت الذي هو فيه، وتنزّلت عليه الملائكة تستغفر له، وأحاطت به الرّحمات من كلّ جانب، فلم يعد يذكر شيئًا من الدّنيا وزينتها. فإذا قضى نهمه من لذّات مُكْثه في المسجد، وهمّ بالخروج دعته نفسه قائلة: إلى أين تخرج؟ إلى بيت خير من بيت الله! أم إلى قوم خير من ملائكة الله؟!
ومن جميل التّشبيه قول بعضهم: “المؤمن في المسجد كالسّمكة في البحر، والمنافق في المسجد كالعصفور في القفص”.
ومما يُعين على التعلّق بالمساجد والمكث فيها – فضلاً عمّا سبق – تذكُّر أهوال يوم القيامة وما فيها من الخوف والهلع وتقلّب القلوب والأبصار، فحينما أثنى الله تعالى في الآيات السّالف ذكرها من سورة النّور على الرّجال الذين يمكثون في المساجد ولا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله قال سبحانه عنهم: (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ). قال الشّيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- في تفسيره: “ولما كان ترك الدّنيا شديدًا على أكثر النّفوس، وحبّ المكاسب بأنواع التّجارات محبوبًا لها، ويشقّ عليها تركه في الغالب، وتتكلّف من تقديم حقّ الله على ذلك، ذكر (سبحانه) ما يدعوها إلى ذلك -ترغيبًا وترهيبًا- فقال: (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) من شدّة هوله وإزعاجه للقلوب والأبدان، فلذلك خافوا ذلك اليوم، فسهّل عليهم العمل، وترك ما يُشغل عنه”.
وإنّ النّاظر إلى مساجد الأحياء الفقيرة التي تقطنها العمالة الوافدة ليلحظ كثرة من يمكث فيها بعد الصّلوات من العمّال الفقراء، على الرّغم من شدّة تعبهم وصعوبة وكثرة أعمالهم، بينما مساجد الأحياء الأخرى تشتكي جفاء أهلها، وقِلّة من يمكث فيها ولو بضع دقائق بعد الصّلوات.
فيا أخي الكريم.. لنوثّق علاقتنا بالمساجد، ونَصِلَها ليَصِلَنا الله تعالى بأفضاله وإنعامه، فتزول همومنا، وتصفو أذهاننا، ونسعد في حياتنا.
أسأل الله الكريم أن يُحبّبنا فيما يُحبّه ويرضاه سبحانه، وأن يجعلنا من المعلّقة قلوبهم بمساجده.
[1] نُشر بتاريخ 20 شعبان 1433 الموافق 10 يوليو 2012
لا تعليق