لا تعليق
إن من أعظم ما يزيد الإيمان في النفوس ويعلق القلوب ببارئها، ويدفع الجوارح للعمل في مرضاة ربها؛ التفكر في آلاء الله تعالى وآياته الكونية الدالة على دقيق صنعها وعظيم خلقها وخالقها سبحانه. ومن النعم التي نستمتع بها ويغفل الكثير عن شكرها والتفكر فيها: نعمة الظلال الذي نطلبه وننشده لنلوذ فيه من حرارة الشمس ولهيبها؛ فتبرد جلودنا بعد اصطلائها، وترتاح أجسادنا بعد تعبها وتنشرح نفوسنا بعد ضيقها.
ويكفي للدلالة على عِظَم هذه النعمة أن الله تعالى قد ذكّر عباده بها في كتابه الكريم، ودعاهم إلى التفكر فيها، فقال عز وجل (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ) النحل : 48 ، وقال تعالى (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا) النحل : 81 .
كما جعل عزّ وجلّ الظلَّ من دلائل قدرته وعظمته، فقال (أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا) الفرقان: 45، قيل عند هذه الآية: “إن مشهد الظل الوارف اللطيف ليوحي إلى النفس المجهودة المكدودة بالراحة والسكن والأمان، وكأنما هو اليد الآسية الرحيمة تنسم على الروح والبدن، وتمسح على القرح والألم، وتهدهد القلب المتعب المكدود ” وقيل : ” ومتابعة خطوات الظل في مده وانقباضه يُشيع في النفس نداوة وراحة كما يثير فيها يقظه لطيفة شفيفة ،وهي تتتبع صنع البارئ اللطيف القدير . . وإن مشهد الظلال والشمس مائلة للمغيب، وهي تطول وتطول، وتمتد وتمتد، ثم في لحظة، لحظة واحدة ينظر الإنسان فلا يجدها جميعاً. لقد اختفى قرص الشمس وتوارت معه الظلال”.
وفي القرآن العظيم أيضاً يذكر الله تعالى الظل وضده لاستثارة التفكر، واستنهاض التدبر، وذلك عند بيان عِظم الفارق بين حال المؤمن والكافر في الدنيا وفي الآخرة ؛ فيقول سبحانه (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ، وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ، وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ، إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ ، وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) فاطر 19-22 قال ابن كثير رحمه الله : ” يقول الله تعالى كما لا تستوي هذه الأشياء المتباينة المختلفة كالأعمى والبصير لا يستويان بل بينهما فرق وبون كثير، وكما لا تستوي الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور، كذلك لا يستوي الأحياء ولا الأموات. وهذا مثلٌ ضربه الله تعالى للمؤمنين وهم الأحياء وللكافرين وهم الأموات”.
ومما يدل كذلك على عِظم هذه النعمة التي قلّ من يستشعرها أن الله تعالى يُمتع بها عباده المتقين في الجنة -جعلنا الله من أهلها – كما قال سبحانه (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ) المرسلات 41 وقال (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ، لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ، وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا) النساء : 57 .
وفي مقابل الظل الوارف البارد اللطيف في الجنة للمتقين هناك الظل الخانق اللاهب الحارق في النار للمكذبين، قال الله تعالى مخاطباً لهم (انْطَلِقُوا إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ ، لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ) المرسلات 30-31 وقال سبحانه (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ، لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ) الواقعة 41-44 قال ابن كثير : “وظل من يحموم وهو الدخان الأسود”.
وكما أن في الدنيا ظلٌ وفي الجنة والنار ظلٌ فإن ما بينهما ظلٌ أيضاً، وذلك في أهوال يوم القيامة عندما تقترب الشمس من الخلائق قدر ميل فيتصبب العرق منهم حتى يلجم بعضهم إلجاماً، هنالك ظل عرش ربنا الرحمن جل جلاله، ينعم به أصناف من الناس ورد ذكرهم في أحاديث مشهورة معلومة. فما أسعد من يتفيأ ذلك الظلال، وما أهنأ من يستظل في ذاك المكان.
من جانب آخر .. فإذا وقفت في ظلٍ ليقيك من حرارة الشمس، ورأيت انحساره شيئاً فشيئاً فتذكر أن حياتك بل الحياة الدنيا كلها مثل هذا الظل الذي لا يلبث أن يزول، ولهذا فلا ينبغي لعاقل أن يغتر بها، ولا لحصيف أن يركن إلى زينتها ..
نرجو البقاء بدار لا ثبات لها فهل سمعت بظلٍ غير منتقل
وختاماً .. فإن في الدنيا ظلٌ من نوع آخر، لا يُتقى فيه من أشعة الشمس ووهجها ، بل من أضواء الشهرة وبريق الإعلام ، ولذلك لا يطلبه الكثير، فالمستظل فيه يهنأ بالخالق عن ثناء المخلوقين ، ويطمأن بمعية المولى عن حديث الموالي ، وينشد رضى الغني القوي عن رضى العبيد الضعفاء المساكين، فهل طلبنا هذا الظل؟
[1] نُشر بتاريخ 3/8/1433 هـ
لا تعليق