لا تعليق
قد يقف أحدنا كل يوم أمام المرآة عدة مرات ليرى مظهره الخارجي، هل هو مناسب فيمضي، أم يحتاج إلى تعديل فيقوم به، لكن كم مرة في اليوم بل الأسبوع بل العام نـنظر إلى المرآة التي تكشف لنا ما وراء الزينة الظاهرية، وما خلف الشكل الخارجي.
نعم توجد مرآة – بل مرايا – تكشف للإنسان ما هو أهم وأعظم عند الناس بل وعند رب الناس من ذلك المظهر الخارجي.
توجد مرآة تكشف لك مستوى إيمانك ودرجة أخلاقك بكل دقة وعناية..
وكما أن المرآة الزجاجية تُريك ظاهرك كما هو بلا خداع، فإن تلك المرآة تُريك إيمانك وسلوكك كما هو ظاهر أمامها بلا مجاملة أو مواربة.
تلك المرآة أشار إليها النبي r ، ودعا إلى الاستفادة منها بقوله: (المؤمن مرآة أخيه) رواه أبو داود. قال صاحب عون المعبود: “أي آلة لإراءة محاسن أخيه ومعائبه، وأيضًا هو يرى من أخيه ما لا يراه من نفسه، وإنما يعلم الشخص عيب نفسه بإعلام أخيه كما يعلم خلل وجهه بالنظر في المرآة“.
قال الحسن البصري: “إن المؤمن شعبة من المؤمن، وهو مرآة أخيه، إن رأى منه ما لا يعجبه، سدده وقومه ووجهه، وحاطه في السر والعلانية“.
وقد قيل:
فالعين تنظر منها ما دنا ونأى ولا ترى نفسها إلا بمرآة
لماذا نـنظر إلى المرآة؟
نحتاج إلى النظر وبشكل متكرر إلى المرآة الأخوية، بل وإلى غيرها من المرايا، لأمور عدة منها:
* أنّ الإنسان لا يخلو من قصور في عبادته، أو عيوب في سلوكه، أو خلل في مفاهيمه ومعتقداته، فقد جُبلت النفوس على التعلق بالدنيا ومحبة النفس والشح والميل للدعة، ولم يَسلَم أحد من البشر غير الأنبياء، لكن كثيرًا من الناس لا يعلم بعيوب نفسه بسبب محبته لها، والمحب لا يرى إلا محاسن محبوبه، قال ابن القيم – رحمه الله -: “حبك الشيء يُعمي ويُصم. والإنسان مجبول على محبة نفسه فهو لا يرى إلا محاسنها، بل قد يشتد به حبه لنفسه حتى يرى مساويها محاسن كما قال تعالى: (أفمن زُين له سوء عمله فرآه حسنًا) فاطر: 8″.
وهذه المحبة للنفس تقود لرضا العبد عن نفسه والذي بدوره يقود إلى آفات عظيمة كالعُجب والكِبر، كما قال ابن القيم: “رضا العبد بطاعته دليل على حسن ظنه بنفسه، وجهله بحقوق العبودية، وحاصل ذلك أن جهله بنفسه وصفاتها وعيوب عمله، وجهله بربه وحقوقه وما ينبغي أن يُعامل به، يتولد منه رضاه بطاعته، وإحسان ظنه بها، ويتولد من ذلك من العُجب والكِبر والآفات ما هو أكبر من الكبائر الظاهرة مثل الزنا، وشرب الخمر، والفرار من الزحف ونحوها”، كما بيّن ابن عطاء رحمه الله خطورة الرضا بالنفس فقال: “أصل كل معصية وغفلة وشهوة: الرضا بالنفس”.
وقد لا يرى الإنسان قصوره في واجب من الواجبات لأنه لا يعلم به، أو بوجوبه، أو لأسباب أخرى ذكرها ابن القيم بقوله: “إن العبد كثيرًا ما يترك واجبات لا يعلم بها، ولا بوجوبها، فيكون مقصرًا في العلم، وكثيرًا ما يتركها بعد العلم بها وبوجوبها إما كسلًا أو تهاونًا، وإما لنوع تأويل باطل، أو تقليد، أو لظنه أنه مشتغل بما هو أوجب منها، أو لغير ذلك”.
* أننا في زمان قلَّ فيه الناصحون، وللدلالة على ذلك: اسأل نفسك: كم الذين أسدوْا إليَّ نصيحة تـتعلق بقصور في عبادتي أو خلل في سلوكي؟. قد تكون الإجابة: لا أحد. إن غالب ما نسمعه من نقد – إن سمعناه – يدور حول عبارة عابرة تلفظنا بها، أو تصرف عارض فعلناه، لكن أين من يقدم نصيحة لك تتعلق بعبادتك أو مكونات شخصيتك ونمطها؟.
* أن التفتيش والسؤال عن عيوب النفس وأمراضها علامة على صحة الإيمان ورجاحة العقل، قال الغزالي رحمه الله: “فكل من كان أوفر عقلًا وأعلى منصبًا، كان أقل إعجابًا وأعظم اتهامًا وفرحًا بتنبيه غيره على عيوبه”، ولهذا كان من دأب سلف الأمة الأخيار البحث عن عيوب أنفسهم لإصلاحها، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يدعو الناس إلى إسداء النصيحة إليه، بل ويحفزهم ويشجعهم على ذلك بأن يدعو للناصح فيقول: “رحم الله امرءًا أهدى إليَّ عيوبي”. و قام عمر بن عبد العزيز رحمه الله بتكليف مولاه مزاحم بمراقبة أفعاله وأقواله وتنبيهه على أخطائه ولو كان بغلظة، وألا يمنعه من ذلك كونه أميرًا للمؤمنين فقال له: “إن الناس يختارون الأعين لتأتيهم بأخبار الناس، وإني جعلتك عينًا على نفسي، فإذا رأيتني أعصي الله فخُذ بتلابيبي، وقل لي اتق الله يا عمر”. ودعا أحد السلف الناس إلى نصحه حتى لو كان في أمرٍ يكرهه، فقال ميمون بن مهران رحمه الله: “قل لي في وجهي ما أكره، فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكرهه”. وكانوا يأسون على فقد الأخ الناصح كحال محمد بن واسع رحمه الله الذي قال: “ما آسى على الدنيا إلا على ثلاث: صاحب إذا اعوججت قوَّمني، وصلاة في جماعة يحمل عني سهوها وأفوز بفضلها، وقوت من الدنيا ليس لأحد فيه منة ولا لله عز وجل فيه تبعة”، وكحال سفيان الثوري رحمه الله الذي قال: “أدركنا الناس وهم يحبون من قال لأحدهم: اتق الله تعالى، وقد صاروا اليوم يتكدرون من ذلك”. بل وصل الأمر بداود الطائي رحمه الله إلى اعتزال الناس فقيل له: ”لِـمَ لا تخالط الناس؟ فقال: وماذا أصنع بأقوام يُخفون عني عيوبي”.
* أن المداومة على التفتيش عن عيوب النفس تساعد على اكتشاف أية شوائب جديدة تسربت إليها أولًا بأول، مما يسهل معه معالجتها قبل أن تصبح عادات راسخة يصعب إزالتها.
كيف أعرف عيوبي لأصلحها؟
* ملازمة التقوى، فإنها تمنح صاحبها البصيرة التي تدله على عيوبه، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الأنفال: 29. قال ابن كثير: “من اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره، وفق لمعرفة الحق من الباطل” وقال محمد بن كعب القرطي: “إذا أراد الله بعبد خيرًا جعل فيه ثلاث خصال: فقهًا في الدين، وزهادة في الدنيا، وبصرًا بعيوبه”.
* اطلب من إخوانك الصادقين أن يُبصروك بعيوبك، وحفزهم لفعل ذلك، كما مرَّ علينا من أخبار السلف، قال بلال بن سعد رحمه الله لصديق له: “بلغني أن المؤمن مرآة أخيه، فهل تستريب من أمري شيئًا؟”. ثم وطِّن نفسك على قبول النصيحة والعمل بمقتضاها والحذر من بطر الحق ورده، قال الرسول r : (إن أبغض الكلام إلى الله: أن يقول الرجل للرجل: اتق الله! فيقول: عليك بنفسك) رواه البيهقي والنسائي وصححه الألباني، وقال الغزالي رحمه الله: “وقد آل الأمر في أمثالنا إلى أن أبغض الخلق إلينا من ينصحنا ويعرفنا عيوبنا، ويكاد هذا أن يكون مفصحًا عن ضعف الإيمان؛ فإن الأخلاق السيئة حيات وعقارب لداغة، فلو نبهنا منبه على أن تحت ثوبنا عقربًا لتقلدنا منه منّةً وفرحنا به، واشتغلنا بإزالة العقرب وقتلها، وإنما نكايتها على البدن ولا يدوم ألمها يومًا فما دونه، ونكاية الأخلاق الرديئة على صميم القلب أخشى أن تدوم بعد الموت أبد الآباد، ثم إنا لا نفرح بمن ينبهنا عليها بإزالتها، بل نشتغل بمقابلة الناصح بمثل مقالته، فنقول له: وأنت أيضًا تصنع كيت وكيت. وتشغلنا العداوة معه عن الانتفاع بنصحه، ويشبه أن يكون ذلك من قساوة القلب التي أثمرتها كثرة الذنوب، وأصل كل ذلك ضعف الإيمان”.
* إذا أعجبتك صفة حميدة في أحد من الناس، فارجع إلى نفسك واسألها: هل هي موجودة فيَّ؟ لماذا لا أتحلى بها؟
إذا أعجبك خصـال امـرئ فكنه تكن ما أعــجبك
فليس على الجود والمكرمات إذا جئتها حاجبًا يحـجبك
وإذا رأيت صفة ذميمة في أحد، فارجع إلى نفسك واسألها: أليست موجودة فيَّ؟ ما الطريقة للخلاص منها؟ قيل لعيسى عليه السلام: “من أدبك؟. قال: ما أدبني أحد. رأيت جهل الجاهل شينًا فاجتنبته”. وقال الغزالي: “فلو ترك الناس كل ما يكرهونه من غيرهم لاستغنوا عن المؤدب”.
* إذا قرأت في القرآن الكريم أو في السنة النبوية صفات الأتقياء أو صفات الأشقياء، فاسأل نفسك: هل هذه الصفات فيَّ؟. كان شميط بن عجلان يقول: “إن المؤمن اتخذ كتاب الله عز وجل مرآة، فمرة ينظر إلى ما نعت الله عز وجل به المؤمنين، ومرة ينظر إلى ما نعت الله عز وجل به المغترين”.
* استفد مما يقوله مبغضوك فيك، فإنهم ولابد سيظهرون معايبك، قال الغزالي: “إن عين السخط تبدى المساويا. ولعل انتفاع الإنسان بعدوٍ مشاحن يذكر عيوبه أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يثني عليه ويمدحه ويخفى عنه عيوبه، إلا أن الطبع مجبول على تكذيب العدو، وحمل ما يقول على الحسد، ولكن البصير لا يخلو عن الانتفاع بقول أعدائه، فإن مساوئه لابد وأن تنتشر على ألسنتهم”.
* الدعاء، فإن من أولى ما يدعو به المرء لنفسه أن يبصره الله بعيوبه التي تفسد عليه أعماله، وقد كان أحد تلاميذ سفيان الثوري يدعو الله عز وجل ويقول: “اللهم عرفني نفسي”.
ختاماً .. فما مضى ذكرٌ لعدد من المرايا التي تزيد من إيمانك، وتُريك عيوبك، فلا تترك النظر إليها لتربي نفسك بنفسك.
[1] نُشر بتاريخ 14 رجب 1431 الموافق 26 يونيو 2010
لا تعليق