لا تعليق
لدى كل داعية إلى الله أعمال دعوية يُـباشرها ، وهموم خيرية يُـعايشها ، أمضى عمره من أجلها ، وقضى وقته في سبيلها ..
ولكن هل جلس أحدهم يوماً من الدهر وسأل نفسه : هل هذه الجهود والأعمال الدعوية هي أفضل ما يمكن أن أقوم به ؟ أم أن طاقتي وقدراتي تستطيع القيام بأعمال هي أكثر ثماراً وأعظم آثاراً من جهودي الحالية ؟
ينبغي للداعية الحريص المبادر لكل خير أن يطرح هذا السؤال حتى لا يترك العمل الفاضل – مع قدرته عليه – وينشغل بعمل مفضول .
وقد نبه ابن الجوزي رحمه الله إلى هذا الأمر فقال : ينبغي لمن عرف شرف الوجود أن يُحصل أفضل الموجود . وقال أيضاً : فينبغي للمستيقظ ألا يطلب إلا الأنفس [2] وذلك أن علو همة الداعية تقتضي ذلك .
إذا غامرت في شرف مَـروم فلا تقنع بما دون النجوم
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم إذا سأل أحدٌ الله تعالى الجنة أن يسأله أفضل منازلها ، وأعلى درجاتها ، مع أن الجنة كلها طيبة – جعلنا الله من أهلها – فقال عليه الصلاة والسلام (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ؛ ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ؛ فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة _ أراه _ فوقه عرش الرحمن ، ومنها تفجر أنهار الجنة ) [3]
يقول ابن حزم رحمه الله : من شغل نفسه بأدنى العلوم وترك أعلاها – وهو قادر عليه – كان كزارع الذرة في الأرض التي يجود فيها البُـر .[4]
وهناك الكثير والكثير من الأعمال الدعوية التي تُـنـتج بُراً لا ذرة .. لعل من أعظمها أثراً أن ينشئ الداعية مؤسسة دعوية أو يشارك في إنشائها، أو يُـقدم شيئاً من جهوده عبرها . . فعصرنا عصر المؤسسات. والمتأمل في حال أعدائنا يجد أنهم يحاربوننا فكرياً عن طريق المؤسسات ، بل لا يكاد يذكر أي جهد فردي لأحد منهم مهما عظمت مكانته عندهم .
ومن أبرز المؤسسات التي تحتاج إليها الأمة -ولها ثمار عظيمة وآثار جليلة- ما يأتي:
مراكز البحوث والدراسات ، ومنها :
- مراكز لبحث ودراسة الفكر الليبرالي العربي : كيف يفكر، رموزهم ومشاريعهم وخططهم ، وسائل الرد عليهم ، تأصيل القضايا التي يثيرون حولها الشبه ، توعية المسلمين بخطرهم .. ونحو ذلك .
- مراكز للبحوث والدراسات الدعوية : دراسة اتجاهات الناس وميولهم وطرائق تفكيرهم، إعداد البحوث والرسائل التي تعالج الظواهر السلبية في المجتمع وتزويد العلماء والدعاة ودورالنشر بها، ابتكار أساليب دعوية جديدة ذات أثر بالغ .
- مراكز بحوث ودراسات تعنى بأحوال المجتمعات الغربية الدينية والاجتماعية والتعليمية، وذلك للرد عليهم من واقعهم ، ولبيان مآل مسلكهم لعموم المسلمين .
- مراكز بحوث تعنى بالشباب ، نظراً إلى أهمية دورهم وارتفاع نسبتهم في العالم الإسلامي (يصلون إلى قرابة نصف المجتمع ).
- مراكز بحوث تهتم بالطفل المسلم ؛ لمعرفة احتياجاته وما الذي يتعرض له ،وسائل تحصينه ، طرق فاعلة لتربيته .. إلخ ..
مراكز الـتأهيل والتدريب ، ومنها :
- مراكز لتأهيل الدعاة والداعيات لتزويدهم بكل ما يحتاجون إليه في طريقهم الدعوي .
- مراكز لتدريب وتطوير الدعاة والداعيات لصقل مهاراتهم ، وزيادة أثرهم، ليتمكنوا من أداء رسالتهم بكفاية عالية [5].
- مراكز التدريب والتأهيل الفني للأقليات المسلمة في الدول التي تأتي منها العمالة كالفلبين والهند وغيرها، وذلك في المجالات التي تحتاج إليها المجتمعات الإسلامية ، حيث يصعب على من يريد أن يستقدم عمالة مدربة ومؤهلة فنياً من تلك الدول أن يجد ذلك في العمالة المسلمة ، بسبب فقرهم وعدم تأهيلهم .
المراكز الاجتماعية ، ومنها :
- مراكز الإرشاد الأسري : لتهيئة المقبلين على الزواج وتثقيفهم، ومعالجة المشكلات الزوجية، حيث وصلت حالات الطلاق في العالم الإسلامي إلى نسب مرتفعة .
- مراكز الإرشاد الاجتماعي .
- مراكز رعاية الأيتام .
- مراكز رعاية أصحاب الاحتياجات الخاصة .
إنشاء الإذاعات في الدول ذات الأقليات المسلمة لدعوتهم :
وهذه الإذاعات تكلفتها قليلة (بضعة آلاف) فيما نجد أن مجالها واسع ، وأثرها عام ، كما أنها لا تحتاج إلى طاقات بشرية كثيرة ؛ فيكفي لتشغيلها شخص واحد أو شخصان.
إنشاء شركات الترفيه والسياحة :
حيث تعج المجتمعات الإسلامية بتلك الشركات التي لا تراعي الضوابط الشرعية في أعمالها ، بل تكون – أحياناً – قنوات لنشر الفساد والرذيلة في المجتمع .
العناية بالمناطق والمدن الإسلامية التي تخلو من العلماء والدعاة :
فالصالحون هنالك يتشوقون ولو لـ (طويلب) علم ليقود دفة الدعوة لديهم . كما أنهم محتاجون إلى القنوات الرئيسة لنشر الدعوة ؛ كالتسجيلات والمكتبات ودور النشر والجمعيات الخيرية ودور وحلق تحفيظ القرآن الكريم [6] .
إنشاء المؤسسات المتخصصة في إعداد المناهج الدراسية والشرعية والتربوية :
وذلك حتى تستفيد منها المراكز الإسلامية التعليمية في الخارج ، وكذلك المربون والمعلمون في الدول الإسلامية الذين يفتقدون إليها ، وبخاصة بعد المحاولات المتكررة لتغيير مناهج التعليم الرسمي.
إنشاء المؤسسات والمراكز الأدبية :
وذلك لتعنى بالأدب الهادف ، وبخاصة الرواية والقصة ، نظراً لتأثيرها البالغ في صياغة فكر الشباب والفتيات . ولتقوم تلك المؤسسات برعاية المواهب الجديدة، وإقامة المسابقات الدورية لاستخراج الطاقات الواعدة ، وكذلك طباعة القصص والروايات الهادفة ونشرها.
إنشاء الجامعات والكليات والمدارس الأهلية :
فقد سبقتنا الدول الغربية في إنشائها في بلاد المسلمين لنشر سمومها، ثم قلدهم أتباعهم فبدأوا بافتتاحها في عدد من مدن المسلمين .
هذه بعض أهم المؤسسات والمشاريع التي تحتاجها الأمة ، وقد ظهر – ولله الحمد –على أرض الواقع عدد منها وخاصة في بلاد الحرمين ، ويمكن نقل التجارب والمشاريع القائمة لاختصار الأوقات والجهود والأموال .
وختاماً :
فإن المنازل العالية في الجنة وحاجة الأمة الماسة تدعوان كل داعية إلى الله تعالى إلى مراجعة جهوده الدعوية ومقارنتها بقدراته ومواهبه، آخذاً في الاعتبار الفرص المتاحة أمامه؛ وذلك لكي نتجاوز عبارة طالما ثبطت وعن التميز أقعدت ، ألا وهي ( ليس في الإمكان أفضل مما كان).
[2] صيد الخاطر – ص 302
[3] رواه البخاري
[4] الأخلاق والسير – ص 88
[5] افتتح الداعية الهندي والمناظر المعروف / ذاكر عبدالكريم مركزاً في الهند لتدريب الدعاة الراغبين في مناظرة النصارى وغيرهم ، ويأتي إلى المركز دعاة من خارج الهند وحتى من بلاد الحرمين .
[6] يوجد بعض تلك القنوات في عدد من تلك المدن لكنها دون المستوى المطلوب بكثير .
لا تعليق