مُدَوّنة منصور بن محمد المقرن

لا تعليق

الداعية الموفق:

هل تذكر أول مرة ارتقيت واعتليت سنام الدعوة إلى الله تعالى ؟

كان ذلك شرفاً عظيماً منحك الله إياه .. حيث عملت في الدعوة الفردية ولازلت ، وشاركت في الدعوية الجماعية ضمن جهة خيرية وما برحت ..

الآن ,, وبعد سنين من تلك البداية ، ومع تكرار العمل الذي تقوم به ، وطول الصحبة معه ، هل قمت بالنظر في نيتك للتأكد من أنها ما زالت كما بدأتها أول مرة خالصة لله تعالى ؟

قد يكون هذا التساؤل غريباً بعض الشيء ، لكن دعني أذكر لك سبب ذلك :

قرأت حادثة عجيبة تدفع كل واحد منا إلى أن يسأل نفسه ذلك السؤال .. يقول أحد السلف: حججت على قدميَّ عشرين سنة ثم طلبت مني أمي في أحد الأيام شيئاً من السوق لأحضره لها فصعب عليَّ ذلك ولم استجب لها . . فعلمت أني ما حججت على قدميَّ إلا ليثني الناس عليَّ بذلك.

وإليك هذه المواقف الثلاثة التي يتكرر حدوثها في عصرنا لنرى شدة التفريط في هذا الجانب لدى البعض:.

 

الموقف الأول:

داعية يدعو أحد الشباب الغافلين مرات عديدة فلم يستجب له، وبعد مدة رآه وقد استقامت أحواله ، فسأل عن ذلك فقيل أنه بسبب كلمة سمعها من داعية آخر غيره . فلم يفرح بذلك بل انقبض قلبه.

الموقف الثاني:

مسؤولة نشاط في مؤسسة تلقت إعلاناً لبرنامج دعوي ناجح لدى جهة خيرية أخرى قريبة منها ، فلم تقم بتوزيعه، وزادت على ذلك بإن أقامت برنامجاً مشابهاً ولكنه ضعيف لتجذب نساء الحي إليه .

الموقف الثالث:

داعية لدى جهة خيرية يتولى منصباً قيادياً فيها لكونه قد ساهم في إنشاء تلك الجهة وبعد سنين لم يستطع فيها إجراء التطوير المطلوب ، وكثر الإستياء من إدارته ، لكنها استمر رغم ذلك ورغم وجود الكفاءات البديلة المتميزة.

 

إن التفتيش في القلب والنظر في النية لمعرفة ما قد يُـنقص أجر العمل أو يحبطه من أوجب الواجبات التي ينبغي على المكلفين مراعاتها سواء عند أداء العمل أو بعد الفراغ منه ، يقول ابن القيم رحمه الله (فمعرفة ما يُـفسد الأعمال في حال وقوعها ، ويبطلها ويحبطها بعد وقوعها من أهم ما ينبغي أن يفتش عليه العبد ويحرص على علمه ويحذره).

بل إن الاهتمام بصحة النية أصعب من أداء العمل نفسه ، فقد قال عبدالله بن مطرف ( تصفية العمل من الآفات أشد من العمل ) .

ولقد كان دأب سلفنا الصالح محاسبة أنفسهم دائماً وخصوصاً في موضوع الإخلاص والمقاصد ، كما قال الحسن البصري (لا تجد المؤمن إلا يحاسب نفسه ما أردت بكلمتي ؟ ماذا أردت بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟).

وينبه ميمون بن مهران رحمه الله إلى أهمية سلامة المقصد في كلمة قصيرة لكنها جامعة ومؤثرة فيقول ( إن أعمالكم قليلة فأصلحوا هذا القليل )

لقد كان هذا الحرص والاهتمام نابعاً من معرفتهم – رحمهم الله -بخطورة الأمر وشدة تقلب النية واختلافها من بدء العمل إلى انتهائه .. فهذا الرجل الصالح أويس القرني يقول (إذا قمت فادع الله أن يصلح لك قلبك ونيتك، فلن تعالج شيئاً أشد عليك منهما، بينما قلبك ونيتك معك إذا هو مدبر ، وبينما هو مدبر إذا هو مقبل) .

وتأمل – حفظك المولى – كيف كانت أعمار السلف تــنقضي في رعاية هذا الجانب والعناية به ، فقد نقل سفيان بن عيينه عن أحد العلماء قوله ( اثـنـتان أنا أعالجهما منذ ثلاثين سنة : ترك الطمع فيما بيني وبين الناس ، وإخلاص العمل لله عز وجل )

ويؤكد أحد أئمة الإسلام وهو سفيان الثوري-رحمه الله-هذا المعنى فيقول (ما عالجت شيئاً أشدَّ عليَّ من نيتي، إنها تتقلب عليَّ ) فإذا كانت نية ذلك الإمام لا تثبت له على حال فكيف بنا؟

ويعود سبب ذلك التقلب إلى أن النفس تريد حظوظها الدنيوية من تلك الأعمال ، وهذا لا يجتمع مع الإخلاص ، وقد سُئل سهل التستري رحمه الله: أي شئ أشد على النفس؟ فقال : ( الإخلاص،إذ ليس لها فيه نصيب ) .

وقد كان من أكثر ما يخشاه السلف على أعمالهم أن يكون دافعها محبة الثناء من الناس ، والنفس  لا تشعر بذلك ، فهذا يوسف بن الحسين يقول ( أعز شيء في الدنيا الإخلاص ، كم أجتهد في إسقاط الرياء من قلبي فينبت لي على لون آخر) .

وهذا الإمام الذهبي-رحمه الله- وقد علم خطر هذا الداء يوجه نصيحة للعلماء-لاحظ للعلماء- فيقول ( ولا يفتر عن محاسبة نفسه فإنها تحب الظهور والثـناء ) .

والله لنحن أولى بهذه النصيحة من العلماء .

فإرادة الثـناء من الناس تـنافي إرادة ما عند الله وحده ، كما قال ابن القيم رحمه الله ( لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثـناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار ، والضب والحوت ) .

ورحم الله الإمام الشافعي الذي ذبح محبة المدح بسكين الزهد والتجرد ، وقد نقل عنه قوله ( وددت أن الخلق يتعلمون هذا العلم ولا يُــنسب إليّ منه شيء ) .

وهناك آفة أخرى تدخل القلب فـتـفسد إخلاصه ألا وهي محبة المنصب والصدارة ، وقد بيَّن ذلك أحسن بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ( ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم ‏ بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه ) رواه الترمذي

قال ابن رجب رحمه الله عند شرحه لهذا الحديث ( وأما حرص المرء على الشرف فهذا أشد إهلاكاً من الحرص على المال ، فإن طلب شرف الدنيا والرفعة فيها والرياسة على الناس والعلو في الأرض أضر على العبد من طلب المال ، وضرره أعظم ، والزهد فيه أصعب ) .

وقد عدَّ الإمام الشاطبي حب الرياسة والصدارة على الناس من الآفات التي تصيب الأخيار ويصعب التخلص منها حيث يقول ( آخر الأشياء نزولاً من قلوب الصالحين حب السلطة والتصدر ) .

وغير خافٍ أنه ليس المقصود ترك المنصب والرياسة لمن صلحت نيته ، إنما المقصود التحذير من أن يكون ذلك المنصب هدفاً في حد ذاته لنيل شهوات النفس .

 

وفي نهاية هذا المقال فإني لم أورد ما ذكره السلف علاجاً لتلك الآفات نظراً لأن طبيعة المقال لا تحتمل الإطالة ، كما أن القلوب الحيَّـة المخبتة يكفيها مجرد التـنبيه إلى ما قد يصيبها من الأمراض فتكون على حذر ، وقد مدح الله تعالى أصحاب تلك القلوب بقوله ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) 201  سورة الأعراف

 

وأخيراً … فإن رسالة هذا المقال هي ضرورة تجديد النية الصالحة خاصة مع طول الممارسة للأعمال الدعوية حتى لا يشوب العمل ما يكدره أو يفسده ، ولكي لا تتحول الجهود الدعوية إلى عادات بعد أن كانت عبادات تـثمر الحسنات .

وختـــاماً .. أَدَعُك – أيها الداعية -مع هذا الدعاء لمطرف بن عبد الله لتـتأمله :

{ اللهم إني أستغفرك مما زعمتُ أني أردتُ من وجهك ؛ فخالط قلبي منه ما قد علمتَ }

[1]*     نشر في موقع دعوتها بتاريخ 17 شعبان 1428

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *