مُدَوّنة منصور بن محمد المقرن

لا تعليق

يشعر الكثير بالحرمان عندما يرون غيرهم يتقلبون في نعمة ليست عندهم ..

فالعقيم يشعر بذلك إن رأى من عنده البنون والبنات، والفقير يحس بالأسى عندما يرى الأغنياء وما هم فيه من اللذات، والصعلوك تُـقلبه الحسرة إذا شاهد أصحاب الجاه والوجاهات . . بل وصل الشعور بالحرمان إلى بعض أهل الغنى والرياسات حينما نظروا إلى من فوقهم في المال والضيعات والمناصب والولايات …

فكـل ما مضى من الحرمان قد اعتاد الناس أن يروه، وألفته العامة ورضوه.

لكن كم هم الذين يشعرون بالحرمان إن فاتهم شيء من أعمال البر والفلاح ؟..

وكم الذين أحسوا بالغبن العظيم والفقد الجسيم إذا ضيعوا درجات عند ربهم ومنزلة عند وليهم ؟..

 

إن المتأمل في أحوالنا ليلحظ – وبوضوح -أن البعض لا يألم لفوات كثير من الطاعات وعدد من القربات .. وما ذاك إلا لأن محبتها ما استحوذت على قلوبهم ، ولا شغل عظيم أجرها عقولهم، وما عدّوا أنفسهم من المغبونين والمحرومين.

 

لقد سمَّى الشارع الحكيم من فاته خير كثير بالمحروم ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : دخل رمضان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “إن هذا الشهر قد حضركم ، وفيه ليلة خير من ألف شهر،من حُرمها فقد حُرم الخير كله ،ولا يحرم خيرها إلا محروم“. رواه ابن ماجه وصححه الألباني

كما  عدَّ المسلمَ الذي لا يؤدي الحج أو العمرة رغم استطاعته مدة خمسة أعوام محروماً ، فقد ورد في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول : “إن عبداً أصححت له جسمه ، ووسعت عليه في المعيشة ،تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إليَّ لمحروم“. سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 1662

وقد استـقر هذا المعنى عند السلف فقال الفضيل بن عياض: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار، فاعلم أنك محروم مكبل ، كبلتك الخطايا .

بل لقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم الذي تفوته فريضة من الفرائض عن وقتها بالذي يُصاب بأهله وماله فقال : “الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله” رواه مسلم . قال ابن عبدالبر في معناه: إنه كالذي يصاب بأهله وماله إصابة يطلب بها وتراً . والوتر : الجناية التي يطلب ثأرها . فيجتمع عليه غمَّان : غم المصيبة،وغم مقاساة طلب الثأر . شرح النووي على صحيح مسلم.

فصاحب القلب الحي والإيمان الراسخ يغتم ويهتم عندما تفوته عبادة،وأحوال ومقامات سلفنا الصالح تؤكد ذلك .. فهذا عبدالله بن عمر  رضي الله عنهما كان جالساً في المسجد ، فطلع عليه خباب فقال له : يا عبدالله بن عمر! ألا تسمع ما يقول أبو هريرة ؟ إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : “من خرج مع جنازة من بيتها وصلى عليها ثم تبعها حتى تدفن كان له قيراطان من أجر، كل قيراط مثل أحد. ومن صلى عليها ثم رجع كان له من الأجر مثل أحد” . فما كاد ابن عمر يسمع بهذا الحديث حتى أرسل خباباً إلى عائشة ليتأكد من الخبر .. وفي مدة ذهاب خباب يعيش صاحب الهمة العالية والقلب المخبت دقائق عصيبة ولحظات حرجة ،يظهر ذلك في أخذه قبضة من الحصباء يُقلِّبها في يده إلى حين عودة خباب .. ولم يمض وقت طويل حتى جاء الخبر بتصديق عائشة لحديث أبي هريرة، فما كان من ابن عمر إلا أن ضرب بالحصى الذي كان في يده الأرض ثم قال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة . رواه مسلم

إن تلك الحالة النفسية التي عاشها ابن عمر، وذلك الانفعال، وتلك الكلمات المعبرة لتحكي كلها عن مدى التأسف والحسرة التي أصابت ابن عمر بسبب تفويته تشييع الجنائز التي صلى عليها، رغم أنه لم يكن يعلم بفضل ذلك .. فكيف يكون حالنا نحن إن فوتـنا أعمال بر نعلم ونعرف النصوص الواردة في فضلها ؟!.

وفي حادثة أخرى في السياق نفسه ، أن رجالاً أسلموا في مكة ، فأرادوا أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ليتفقهوا في دينهم ويزدادوا من الخير، فأبى أزواجهم وأولادهم عليهم ذلك فأطاعوهم ، وبقوا في مكة. وبعد زمن أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا الناس قد فقهوا في الدين ، فتحسروا على ما فاتهم ، وهمّوا أن يعاقبوا أهليهم وأولادهم،فأنزل الله قوله تعالى “يأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم، وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم”. تفسير ابن كثير عند الآية 14 من سورة التغابن.

فيَـالله.. ما أعجب أولئك الرجال .. فعندما قارنوا أنفسهم بإخوانهم الذين كانوا معهم ووجدوا الفارق الكبير بينهم همّوا أن يعاقبوا أحب الناس إليهم لأنهم تسببوا في فوات كثير من العلم والخير عنهم .. إن تلك المقارنات تحدث الآن بين الناس كثيراً لكنها في أمور الدنيا ..

فهذا رجل صالح ينظر إلى زميل سابق له أيام الدراسة، قد ضمهما أيام الصبا فصل واحد ، فإذا هذا الزميل قد حاز من المال والجاه والمناصب ما لم يحزه هو، فتحسر على ذلك.. لكنه لم يتحسر بل لم يلتفت أصلاً إلى شاب أصغر منه سناً، وأقل منه علماً قد سبقه بمراحل عديدة في أبواب الخير والدعوة إلى الله .. فما أعظم الفارق في الأجر والفضل لو كانت القلوب تفقه ..!

قال أبو حاتم الأصم : فاتـتـني  صلاة الجماعة فلم يعزني إلا أبو إسحاق البخاري ،ولقد ماتت لي بنت فعزاني أكثر من عشرة آلاف ، وما ذاك إلا لأن مصيبة الدنيا أعظم عند الناس من مصيبة الدين .

وقد كان السلف أيضاً يندمون إذا فاتهم شيء من الخير .. فابن عباس رضي الله عنهما-يقول “ما ندمت على شيء فاتني إلا أني لم أحج ماشياً . فرغم كثرة ما حج ابن عباس إلا أنه يرى أنه فرّط في عدم ذهابه للحج ماشياً ،لأنه يرى أن فضل الحج ماشياً أعظم أجراً .

وهذا الإمام الشافعي –رحمه الله- يقول: ما فاتني أحد كان أشدّ عليَّ من الليث وابن أبي ذئب . فقد كان -رحمه الله- يتمنى لو لقي هذين العالمين ليأخذ العلم منهما . قال الإمام الذهبي معلقاً على ذلك : أما فوات الليث فـنعم وأما ابن أبي ذئب فما فرط في الارتحال إليه ؛ لأنه مات وللشافعي تسعة أعوام  . وقد كان جهابذة العلماء بين ظهرانينا ، فمن الذي ندم على فوات تحصيل العلم على أيديهم ؟ وإن كان ندم على ذلك ، فهل استدرك أمره وطلب العلم على من بقي من العلماء الربانيين ؟

وقد وصل الأمر ببعض السلف إلى البكاء إذا لم يعد يستطع أداء طاعة من الطاعات رغم أن الأمر خارج عن إرادته ، فعندما ماتت  أم الحسن البصري ودفنها بكى بكاء شديداً ، فقيل له : تبكي وأنت إمام المسلمين ، وأنت الذي كنت تصبرنا ؟ . فقال : أبكي والله لأنه كان لي بابان إلى الجنة فأغلق أحدهما .

فمن كانت عيناه لا تزالان تكتحلان برؤية والديه أو أحدهما ، فلا يدع الساعات والأيام تمضي إلا وقد ملأها بأنواع البر والصلة والتذلل لهما.

وقد ورد في تفسير القرطبي عند قوله تعالى في وصف يوم القيامة{ذلك يوم التغابن} قال المفسرون: فالمغبون من غـُبن أهله ومنازله في الجنة ، ويظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان، وغبن كل مؤمن تقصيره في الإحسان وتضيـيعه الأيام . قال الزجاج: ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة من كان دون منزلته .

إن من أعظم الغبن للمسلم أن يرى الجمعيات والمشاريع الخيرية تؤسس وينـتشر نفعها وأصحاب الهمم يتسابقون في تأسيسها أو المشاركة في أعمالها وهو قاعد خامل، لا تحركه حركة العاملين فيها، ولا تـثيره ثمارها ليفيق من غفلته وينهض من رقدته ! قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( الراحة للرجال غفلة) .

أما تفويت كثير من المسلمين ومنهم الأخيار للأعمال الصالحة ، وبخاصة في مواسم الخيرات أو الأماكن الفاضلة ؛ فهو أظهر من أن يكتبه قلم ، أو يحيط به بصر ، والله المستعان . وتأمل أحوال بعض الصالحين وأحاديثهم أثـناء جلوسهم في المسجد الحرام في ليالي رمضان .

من جانب آخر فإن صاحب النفس المخبته والقلب الحي ليخشى عند فوات بعض أعمال البر عليه أن يكون ذلك علامة على أن الله تعالى صرف الخير عنه بسبب فساد عنده لم يعلم به، فهو يستحضر عند ذلك قول الله عزوجل ( ولو علم الله  فيهم خيراً لأسمعهم ) فهو يتهم نفسه ويخاطبها قائلاً : لو علم الله العليم السميع البصير فـيَّ خيراً لدلني عليه ثم وفقني للعمل به، ولكن ذنوبي وأمراض قلبي صرفتـني عن الاستزادة من الحسنات .

وقد علق بعض العلماء على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من يرد الله به خيراً يفقه في الدين ) ؛ قائلين : إذا رأيت الرجل لا يتفقه في الدين ، فاعلم أن الله لم يرد به خيراً في التفقه في دينه.

وصنف آخر من أصحاب القلوب اليقظة السليمة عندما يفوته عمل صالح يؤرقه ذلك ويحزنه لكونه قد أصبح مشابهاً للعصاة في تركهم للخير .. كحال الصحابي الجليل كعب بن مالك عندما بقي في المدينة متخلفاً عن اللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته إلى غزوة تبوك، فقد عبَّر عن حاله قائلاً: فطفقت إذا خرجت في الناس بعد رسول الله يحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق أو رجلاً ممن عذره الله عز وجل .

وختاماً: فإن أصحاب البستان الوارد ذكرهم في سورة القلم لما عاقبهم الله تعالى -بفوات شيء من حطام الدنيا عنهم وهو تلف ثمار بستانهم- أفاقوا من غفلتهم وعلموا أن ذلك عقوبة من الله تعالى لهم ، فقالوا : (بل نحن محرومون) ثم تابوا وأنابوا وقالوا : (سبحان ربنا إنا كنا ظالمين) .

فهل نحن إن فاتـنا عمل صالح نشعر بالحرمان ثم نستغفر الله على تفريطنا ونقول :(يا ويلنا إنا كنا طاغين ، عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها إنا إلى ربنا راغبون) .

[1]*     نُشر  بتاريخ 18 صفر 1429

 

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *