لا تعليق
ما أرجح عقلها . . .وما أشدًّ ذكاءها.. .
وما أجمل فطنتها .. وما أحسن حزمها ..
إنها إمرأة عجيبة فريدة .. حازت الشرف من أطرافه ، ودخلت التاريخ من أوسع أبوابه، لم يُسطر قصتها أحد القصاصين، ولم تُكتب سيرتها في أسفار الغابرين.
إنما ذكر حالها وأثنى عليها عالمُ الغيبِ والشهادةِ ، اللهُ جل جلاله، وأورد خبرها في خير كتبه المنزلة القرآن العظيم .. وحسبك بهذا شرفاً وفخراً لها.
إنها ملكة سبأ : بلقــــيس .
تعالوا نستعرض سوياً بعض أقوالها لنضيء سماءنا بقبسات من سيرتها ،ونزكي أنفسنا بدرر من أحوالها، وتسمو هممنا بجميل فعالها.
* * *
لما ألقى إليها الهدهد كتاب سليمان عليه السلام قالت:( ياأيها الملأ إني أُلقي إليَّ كتاب كريم)
تأمل قولها (أُلقيَ إليَّ) قالت بصيغة المجهول، فلم تذكر من الذي ألقاه ؟ وكيف أُلقي ؟ وذلك حتى لا تصرف الانتباه لغير المقصود ، وهو مضمون الكتاب ، فإنها لو قالت : إن طائراً قد ألقاه لتعجبوا من ذلك، وقد لا يصدقونها ، وسيدور كثير من الجدل حول ذلك .. ولذلك اكتـفت بما يدل على المراد .
وفي هذا درس لنا عندما نـنقل أفكاراً أو رؤى حول أمر معين أن نركز على مضمون الفكرة ولا نلتـفت كثيراً إلى من أتى بها، فإن في ذلك اختصاراً للأوقات وبُعداً عن المجادلات التي تضيع أو تضعف فائدة الحوار بينـنا.
* * *
ثمار الشورى
( قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون)
فعلى الرغم من انفرادها في الملك إلا أنها لا تريد أن تستأثر بالقرار دونهم ، بل تشاورهم .
فما نصيب الاستشارة في حياتنا ؟ ومن نستشير ؟ وفي أي شيء نستشير؟
إن أحدنا إذا استشار فإنه يستـشير في صغار الأمور ، كنوع لباس يلبس أو طعام يؤكل أو سيارة تركب .. لكنه لا يستشير فيما تـنبغي فيه الاستشارة مما يكون له أثر بالغ عليه أو على دعوته .
وكم خسرت الدعوة إلى الله تعالى من الأوقات والجهود والأموال بسبب الاستـئـثار بالرأي وترك المشورة.
وإذا كان الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشاورة مع أنه تكفل بتأيـيده وإرشاده ، فنحن أولى بالمشاورة ، قال تعالى : (وشاورهم في الأمر) آل عمران 159
وقد التزم النبي صلى الله عليه وسلم بما أمره الله به ، فقال أبو هريرة رضي الله عنه: ما رأيت أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحتى من عرف عنهم الدهاء والذكاء فإنهم لا يستغنون عن المشاورة ، فهذا عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول : ( ما نزلت بي قط عظيمة فأبرمتها إلا شاورت عشرة من قريش ، فإن أصبت كان الحظ لي من دونهم، وإن أخطأت لم أرجع على نفسي بلائمة) .
وهذه الكلمة النفيسة لعمرو تبين ثمرة من ثمرات المشورة ، وهي الراحة النفسية من تبعات القرار ، لأن صاحبه لم ينفرد بالقرار وحده فيصبح يلوم نفسه ويؤنبها على ما فعل ، بل هو قرار شاركه فيه العديد من المستشارين ذوي الخبرة والدراية .
وفي الحكمة : (المشاورة راحة لك وتعب على غيرك).
كما أن في الاستشارة بُعداً عن احتمالات الخطأ ، ولذلك قيل : (من استغنى برأيه ضل ، ومن اكتـفى بعقله زل).
وتجدر الإشارة ههنا إلى أنه لا يُستشار شخص واحد في كل شيء ، وإنما يُسأل كل أحد فيما يتـقنه ، فهناك متخصص في القضايا الدعوية وآخر في الأمور الاجتماعية .. وهكذا .
كما أن الرجل الحاذق لا يستـشير من يرى أن رأيه سيوافق هواه ، وإنما يستشير من يعتقد أن رأيه سيكون أقرب إلى الصواب ، لأنه يريد الأفضل له ولدعوته وليس الموافق لهواه.
* * *
الهدية تجلي الشكوك
قالت بلقيس : (وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بما يرجع المرسلون)
قال ابن كثير: أي سأبعث إليه بهدية تليق بمثله وأنظر ماذا يكون جوابه بعد ذلك ، فلعله يقبل ذلك منا ويكف عنا ، أو يضرب علينا خراجاً نحمله إليه كل عام ونلتزم له بذلك ويترك قتالنا ومحاربتـنا .
وقال قتادة: ما كان أعقلها في إسلامها وشركها، علمت أن الهدية تقع موقعاً من الناس .
أيها الأخ الفاضل ، أيتها الأخت الكريمة : الهدية الآن نقدمها في الأغلب لمن نحب فهل جربنا أن نقدمها لمن بيننا وبينه تخوف وتوجس ليزول ضباب الشكوك، وينجلي غمام المخاوف فنعيش معه في صفاء وهناء ؟.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (تهادوا، فإن الهدية قلت أو كثرت تذهب السخيمة-أي العداوة- وتورث المودة ) رواه ابن حبان
وكان يُقال : ما ارتضى الغضبان ، ولا استعطف السلطان، ولا سلبت الشحناء، ولا دفعت المغارم، ولا توقي المحذور، ولا استعمل المهجور ، بمثل الهدية إليه.
هدايا النــاس بعـــضهم لـبعض تولـــد في قلوبــهم الوصـالا
وتزرع في الضمير هوى ووداً ويكسوهم إذا حضروا جمالا
* * *
فطنة وحصافة
قال الله تعالى : (فلما جاءت قيل أهكذا عرشك ؟ قالت كأنه هو)
كان سليمان عليه السلام قد أمر بتغيـير بعض صفات عرش بلقيس بزيادة ونقص ليختبر عقلها ، فسألها : أهكذا عرشك ؟
قالت : كأنه هو ! أي يشبهه ويقاربه . وهذا من فطنتها وذكائها ، فلم تقل (هو) لوجود التغيـير فيه، ولم تـنف أنه هو لأنها عرفته، فأتت بلفظ محتمل للأمرين.
قال ابن كثير: فكان فيها ثبات وعقل، ولها لب ودهاء وحزم، فلم تقل أنه هو لبعد مسافته عنها، ولا أنه غيره لما رأت من آثاره وصفاته وإنه غُـيِّر وبُدِّل ونُكِّر.
إن هذا الموقف الحصيف من بلقيس ليعطي درساً بضرورة التأني عند سماع الأخبار وتلقيها ، وبخاصة بعدما كثرت وسائل نقلها وازدادت سرعة تداولها ، كرسائل الجوال والإنترنت.
فبعض الناس لا يكاد يتلقى أو يسمع خبراً إلا ويسارع إلى نشره دون تأمل لمحتواه ولمدى صحته وجدوى نقله.
وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى التأني وعدم العجلة فقال: ( التأني من الله ، والعجلة من الشيطان ) رواه الترمذي وصححه الألباني .
وكم من شخص ندم بسبب عجلته على توزيع رسالة وصلت إليه ، وقد قيل : (إنما تكون الزلة من العجلة).
بل لقد عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم من يُحدِّث بكل ما يسمع كاذباً ، وحسبك بهذه الصفة ذماً ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( كفى بالمرء كذباً أن يُحدِّث بكل مايسمع) رواه مسلم .
قال الإمام مالك رحمه الله : إعلم أنه فساد عظيم أن يتكلم الإنسان بكل ما يسمع .
* * *
الرجوع إلى الحق
( قالت ربِّ إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين)
ماأجملها من كلمة، وما أحسنه من قول : ( ربِّ إني ظلمت نفسي ) ، إقرار بالخطيئة ، واعتراف بالذنب، فلم يجعلها ملكها ومكانتها عند قومها تـتكبر عن قبول الحق والرجوع عن الباطل .
إن المكانة العلمية أو الدعوية ، والخوف من اهتزاز الصورة عند المحبين قد تمنع البعض الآن من التراجع عن قول أو فعل تبين له خطؤه .
ولقد امتدح الله عز وجل عباده المؤمنين الذين يزِلّون ويذنبون ثم لا تأخذهم العزة بالإثم بل يعودون ويتوبون فقال عنهم : (… ولم يُصروا على فَعلوا وهم يعلمون ) آل عمران 135
وتوعد النبي صلى الله عليو وسلم الـمُصرين على الخطأ بقوله : ( ويل للمُصرين، الذين يُصرون على ما فعلوا وهم يعلمون ) رواه أحمد .
فالواجب قبول الحق ممن أتى به ، سواء أكان صديقاً أم عدواً.
قال ابن القيم : ( لا تصح لك درجة التواضع حتى تقبل الحق ممن تحبه وممن تبغضه ، فـتـقبله من عدوك كما تقبله من وليك) .
وأورد ابن رجب علامات العلم الضار فذكر منها (عدم قبول الحق والانقياد له ، والتكبر على من يقول الحق وبخاصة إن كان دونهم في أعين الناس ، والإصرار على الباطل خشية تـفرق قلوب الناس عنهم بإظهار الرجوع إلى الحق ) .
* * *
وختاماً :
فإذا كانت تلك الصفات الجميلة والخصال الحميدة في بلقيس قبل إسلامها ، فإنه أحرى أن نـتصف بها ونحن ممن ولد على الإسلام ، وعاش في كنفه ، وتربى على أخلاقه .
فهل نحن مثلها في فعلها ؟
هذا هو المتوقع والمأمول .
[1]* نشر بتاريخ 19 شعبان 1429
لا تعليق