مُدَوّنة منصور بن محمد المقرن

لا تعليق

أيها الأخ الفاضل ، أيتها الأخت الكريمة :

لو استعرضت مسيرة حياتك لوجدت الكثير من الإنجازات السارة لك .. فأنت تحفظ القرآن أو جزءاً منه ، وتردد كل يوم عن ظهر قلب الكثير من الأذكار، وتصلي الرواتب وتصوم النوافل، وتــتمتع بالعديد من الأخلاق الحسنة، ولديك التصورات والمفاهيم الصحيحة حول الدين والحياة ، ولك جهود دؤوبة في الدعوة إلى الله ،فهل سألت نفسك يوماً ما:

من الذي دلني على تلك الأعمال الكثيرة ، فوفقني الله تعالى للعمل بها؟

أظن أن إجابتك ستكون : ليس شخصاً واحداً بل أشخاص ، فمرة دلـني معلمي، ومرة دلني صديقي ، ومرة استفدت من محاضرة ، وهكذا ..

وهنا يظهر سؤال آخر:

هل لا تزال تــتذكرهم ،وتحفظ لهم الجميل ،وتـنسب الفضل إليهم بعد توفيق الله ؟

إن حفظ الجميل خلق رفيع وأدب عظيم يدل على مروءة من يتحلى به وصدقه ، ويعبر عن وفائه لمن أحسن إليه.

والحديث عن هذا الخلق السامي يكون لعدة أسباب ، أبرزها:

  • أن الله عز وجل قد حث على الإحسان إلى من أحسن إلينا ،فقد قال الله تعالى : ( وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [2] وقال تعالى : ( هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) [3].

كما عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخلق من الإيمان فقال ( وإن حسن العهد من الإيمان) . [4]

  • أن التمسك بهذا الخلق طريق ووسيلة إلى شكر الله عز وجل ،فإن قيامك بشكر من أحسن إليك من الناس سيؤدي إلى شكر المحسن الأكبر والمنعم الأعظم على الناس كلهم ، وهو الله جل وعلا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من لا يشكر الناس لا يشكر الله) . [5]

 

  • أننا مأمورون بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وسيرته مليئة بنماذج وقصص عديدة من الوفاء وحفظ الجميل ، فمنها:

أنه صلى الله عليه وسلم لم ينسَ نصرة زوجه خديجة رضي الله عنها وإعانتها له في أول البعثة ، فكان كما تقول عنه عائشة رضي الله عنها : (كان النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏إذا ذكر خديجة ‏ ‏أثنى عليها فأحسن الثـناء ) [6] . بل بلغ من عِظَم حفظه لجميل خديجة رضي الله عنها أنه كان يُكثر الحديث عنها حتى صارت عائشة رضي الله عنها تغار منها وتـتعجب من كثرة ثـنائه عليها ، ويرد عليها بذكر أفضالها عليه ، فيقول : ( قد آمنت بي إذ كفر بي الناس ، وصدقـتـني إذ كذبني الناس، وواستـني بمالها إذ حرمني الناس ، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء) [7] .

وكان إذا ذبح شاة يقطعها ويقول : ( أرسلوا بها إلى أصدقاء ‏ ‏خديجة) [8]  ؛ فلم ينسَ عليه السلام حتى صديقاتها من وفائه للعهد بينهما .

قال النووي : في هذه الأحاديث دلالة لحسن العهد ، وحفظ الود ، ورعاية حرمة الصاحب والمعاشر حياً وميتاً ، وإكرام معارف ذلك الصاحب . ‏

ويُذكِّر صلى الله عليه وسلم الناس بفضل أبي بكر الصديق عليه فيقول : ( ما لأحد عندنا يد إلا وقد ‏ ‏كافيناه ‏ ‏ ما خلا ‏ ‏ أبا بكر ‏ ‏فإن له عندنا ‏ ‏يداً ‏ ‏يكافيه ‏ ‏الله بها يوم القيامة ، وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال ‏ ‏أبي بكر ) [9].

فتأمل كيف يُعدِّد عليه السلام صنائع أبي بكر له ، ولم يعدَّ ذلك منقصة في حقه أو مكانته .

بل كان صلى الله عليه وسلم يحفظ الجميل لمن أحسن إليه حتى لو كان كافراً ، فعندما عاد من الطائف ووصل إلى مكة أبى عليه قومها أن يدخلها، فبعث إلى المطعم بن عدي ليدخل في جواره فوافق ومنع قريشاً من أذيته ، فلما كانت غزوة بدر وأراد المشركون أن يفتدوا أسراهم، قال صلى الله عليه وسلم : (لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتـنى لتركتهم له) [10].

  • إن حفظ الجميل لأهله علامة على جمال روحك وأصالة معدنك وحسن نشأتك ؛ فقد قيل : (لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أولو الفضل)

وقال الإمام الشافعي : (الحر من راعى وداد لحظة) . فتأمل: وداد لحظة لا يُـنسى ، فكيف بوداد أيام وسنوات ؟ بل كيف بإحسان ينفعك في الدنيا وبعد الممات ؟

 

  • في التحلي بهذا الخلق نفي للعجب عن النفس بنسبة كل خير فيها إليها ، وأن الإنسان شق طريقه وحده ، وربى نفسه ، ولم يكن لأحد من الناس فضل عليه ، وحال هذا تشبه من قال الله تعالى عنه : (فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتـْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[11] . وقد قال قارون عندما رأى ما هو فيه من الغنى : (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) [12] .

 

  • إن تذكر إحسان من أحسن إليك وفضله يدفعك إلى التغاضي عن هفواته وزلاته في حقك ، فقد قال تعالى : (وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [13].
  • أن هذا الخلق كان دأب الصالحين من سلف الأمة وخلفها ، فهذا كعب بن مالك رضي الله عنه لما بُـشر بتوبة الله تعالى عليه انطلق مسرعاً للنبي صلى الله عليه وسلم فرحاً بذلك ، فقال عن نفسه : (دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحوله الناس، فقام طلحة بن عبيدالله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره). فكان كعب لا ينساها لطلحة [14].

وقدم رجل على عبيد الله بن عباس وهو بفناء داره،فقام من يديه فقال: يا ابن عباس: إن لي عندك يداً، وقد احتجت إليها . فصعّـد فيه ابن عباس بصره وصوبه، فلم يعرفه،ثم قال له: ما يدك عندنا؟ قال : رأيتك واقفاً بزمزم وغلامك يمتح (أي يجذب) لك من مائها، والشمس قد صهرتك ، فظللتك بطرف كسائي حتى شربت . قال: إني لأذكر ذلك، وإنه يتردد بين خاطري وفكري ، ثم قال لخادمه : ما عندك ؟  قال: ما ئتا دينار وعشرة آلاف درهم . قال: فادفعها إليه، وما أراها تفي بحق يده عندنا. فقال له الرجل: والله لو لم يكن لإسماعيل ولدٌ غيرك لكان فيه ماكفاه ، فكيف وقد ولدَ سيد الأولين والآخرين محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم شفعه بك وبأبيك .

  • أن حفظك جميلَ الآخرين سيعود عليك بالنفع ، فكل شخص أسديت إليه معروفاً سيحفظه لك ؛ مصداقاً للحكمة القائلة : (الجزاء من جنس العمل).

 

ولحفظ جميل من أسدى إلينا معروفاً صور متعددة ، منها :

  • الدعاء له ، وقد كان هذا دأب الأئمة الكبار ، فعن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال : كنت قائد أبي حين عمي ، فإذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان صلى على أبي أمامة واستغفر له ، فقلت : يا أبة ، أرأيت استغفارك لأبي أمامة كلما سمعت أذان الجمعة ما هو ؟ قال : أي بني ، كان أول من جمع بنا بالمدينة (أي صلى بنا الجمعة).

وهذا الإمام أبو حنيفة النعمان رحمة الله يقول 🙁ما دعوت لوالديَّ قط إلا ودعوت لحماد بن أبي سليمان معهم لما له من فضل علي) بل لقد سمى الإمام أبو حنيفة ابنه حماد على اسم شيخه .

وقال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله وهو من علماء الشافعية : (والله ما صليت صلاة إلا وأنا أدعو للشافعي فيها) .

والإمام أحمد رحمه الله لا ينسى العلم الجم الذي تعلمه من الإمام الشافعي، فيترجم ذلك الوفاء إلى دعاء حيث قال لما رأى ابن الشافعي : أبوك من الذين أدعو لهم كل ليلة في السحر بأسمائهم.

فما نصيب من أحسن إليك من دعائك ؟ وما يدريك ؟! فلعل من أحسن إليك في سالف الأزمان يتعرض الآن لفتن وشدة وضيق لا يُجلِّيها الله عنه إلا بدعائك له .

  • ومن صور حفظ الجميل : زيارته والتواصل معه .
  • ومنها : السؤال عنه وتلمس حاجاته والوقوف معه إن أصابته نوائب الدهر .
  • ومنها : التحديث بفضله أمام الناس ، كما مر معنا في فعل الرسول صلى الله عليه وسلم بتحديثه بفضل خديجة وأبي بكر والمطعم بن عدي . وكان عبد الله بن المبارك رحمه الله يقول : لولا أن الله أعانني بأبي حنيفة وسفيان كنت كسائر الناس .
  • ومنها : إظهار فضله والتذكير بجميله أمامه ، وهذا مما يُشجع صاحب المعروف على الإكثار من الإحسان إلى الآخرين ، ويُثبته على ما هو فيه من الخير .
  • ومنها : الإحسان إلى أبنائه في حياته وبعد مماته .
  • ومنها : الهدية مهما صغرت ، فالعبرة فيها التذكير بالفضل والإحسان وليس قيمتها المادية . وقد قيل :

لو كان يُهدى إلى الإنسان قيمته            لكنت أهديتك الدنيا ومافيها

  • ومنها : المناصحة إن رأيت أنه قد حاد عن الطريق الذي كان عليه أو ضعف .

 

وختاماً .. فاحفظ – حفظك الله – لكل أحد جميله ، وارع – رعاك الله – لكل محسن صنيعه .

[1]*     نشر بتاريخ 26 شوال 1429

[2]   القصص – الآية 77

[3]   الرحمن – الآية 60

[4]   رواه البيهقي وصححه الألباني

[5]   رواه أحمد والترمذي

[6]   رواه أحمد

[7]   رواه أحمد

[8]   رواه مسلم

[9]   رواه الترمذي

[10]   رواه البخاري

[11]   الزمر – الآية 49

[12]   القصص – الآية 78

[13]   البقرة – الآية 237

[14]   رواه مسلم

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *