مُدَوّنة منصور بن محمد المقرن

لا تعليق

كان النهار يَجُرُّ أذيالَهُ الصَّفْرَاء كخيوط الذهب، راحلًا عن الأرض، وأقبل الليل بوشاحٍ أسود، كجلباب امرأةٍ؛ ليغطي به الكون..وعلى غير المعتاد ..التفت النهارُ خَلْفَهُ لينظر إلى ذلك القادم بعده، فرأى الليل، في إِقْبَالِهِ زَهْوٌ وإعجابٌ ، كأنه عروس تُـزفّ..فأراد أنْ يحادثه قبل أن يطوي بساطه ويذهب سلطانه، فـيُذكره بما امتاز عليه؛ لـيُطامِنَ  من شموخه، ويَحُدَّ من أنفته… فكان هذا الحوار :

النهار : أيها الليل الأليل : مضت الدهور تلو الدهور ونحن نتعاقب على الكون ، ولم نتحدث يوماً من الدهر ، فهلا أذنت لي أن أحاورك فيما تبقى من لحظات قبل رحيلي ؟

الليل (متعجباً) : لا مانع من ذلك .. لكن فيما نتحاور ؟

النهار : فيما يمتاز به كل واحد منا ، لنتذكر نعمة ربنا علينا .

الليل (متلهفاً) : تفضل .. هات ما عندك .

النهار (متحفزاً) : لا أظن أن أحداً ينازعني فيما خصني الله به من مزايا .. ربما تكفي واحدة منها فقط لبيان فضلي !

أليس أغلب الناس يطلبون رزقهم وينتشرون في الأرض في النهار ، وقد قال فيّ خالقي سبحانه (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا) [3] وقال تعالى (وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ) [4].

الليل : على رسلك أيها النهار ، ما ذكرته صحيح ، لكن أولئك الناس لا يستطيعون أن يسعوا في الأرض ويطلبوا الرزق فيك لولا أن أبدانهم وعقولهم قد ارتاحت في سكوني ووجدت في هدوئي ما تستعد به لنشاطها فيك . فهل يستطيع البشر أن يكدوا النهار تلو النهار دون ليل يسكنون فيه يُـجدد نشاطهم ويبدد ما لاقوه فيك من تعب وعناء ؟ إنهم في حاجة ماسة إليَّ ، فربي قد قال عني (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) [5] وقال عني سبحانه (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا)[6].

النهار : لا شك في ذلك .. لكن لا تنس أيها الليل ، أن الشمس تشرق في وقتي فتملأ الأرض حبوراً ، وحياة الناس سروراً ، بل حتى الورود والأزهار تفرح بمقدمي فتـتفتح أوراقها ويفوح في الأرجاء شذاها .

الليل : هذا صحيح ، غير أن أكثر الناس ينتظرون مجيئ ليروا فيّ عجائب وروائع من زينة السماء ومصابيحها ، وليستمتعوا بالقمر وشعاعه الفضي الذي يضفي عليّ سحراّ وجمالاً .

النهار (وبذكاء وفطنة) : يبدو أن الحوار سيطول إذا كنا سنتكلم عما في كل واحد منا من زهرة الحياة الدنيا ، لذلك سأنتقل بك إلى عالم أرحب وأوسع .. عالم يتفاضل الناس فيه وتختلف درجاتهم عند ربهم بحسب ما يعملونه فيّ.

الليل : ماذا تقصد بهذا الكلام؟

النهار : سأخبرك ..  مع كل شروق شمس ، لخيار عباد الله موعد مع صلاة الضحى التي هي صلاة المطيعين الأوابين ، وفيّ ساعة كل جمعة لا يوافقها عبد مسلم قائم ‏ ‏يصلي فيسأل الله خيراً إلا أعطاه ، فهنيئاً لأهل الحاجات بها.

الليل : نعم .. نعم .. لقد حوّلت الحوار بيننا إلى عبادة ودعوة إلى الخير.

النهار : حمداً لله على ذلك ، وتأمل أيضاً هذه .. ألم يقدِّر الله الصيام في النهار ووعد من صام يوماً تطوعاً لأجله تعالى أن يُباعد بينه وبين النار سبعين سنة ؟ هذا فضلاً عن صيام رمضان الذي ليس له جزاء إلا الجنة ، وأنعم به من أجر .

الليل : ما أسعد من ابتهل ساعاتك في تلك العبادة الجليلة القدر ، ولكن مهلاًّ فأنا …

النهار : انتظر قليلاً .. لم أنته بعد . لقد ميّـزني ربي بأن جعل فيّ خير أيام السنة على الإطلاق ، نعم .. خير أيام السنة بلا منازع .. إنها أيام عشر ذي الحجة التي يكون العمل فيها أحب إلى الله تعالى مما سواها ، فيضاعف فيها الأجر والمثوبة ، وفي أحد هذه الأيام خير يوم تشرق فيه الشمس ، اليوم الذي تُسكب فيه العبرات ، وتـتـنـزل الرحمات ، فكم فيه من ذنب مغفور ، وكسر مجبور .. هو أكثر يوم  يعتق الله عز وجل فيه عبداً أو أمة من النار ، إنه يوم عرفه وحسبك به .

الليل : لقد نزلت إلى ساحة أيها النهار لا أظن أننا سنخرج منها إلا بانتصاري ، فسوف آتيك بما ترجُح به كفتي بلا شك.

النهار : وما عساه أن يكون ؟

الليل : إن ليلة واحدة فقط من لياليّ خير من ثلاث وثمانين سنة … لو أدركها مسلم فقامها مخلصاً لربه غُفرت له ذنوبه كلها ، ولو كان قد عاش عمره كله يتقلب في المعاصي والآثام ، إنها ليلة القدر .

النهار : تلك مزيّة عجيبة بالفعل تجعل النفوس الزكية تحبك بالفعل و ..

الليل : لحظة من فضلك ، ليس هذا فحسب ، فبخلاف ليلتي تلك، لكل ليلة من لياليّ شأن عظيم .

النهار : ماذا ؟! شأن عظيم ؟!

الليل : نعم . وتأمل ما أقول لتعرف ، في آخر ساعاتي ينـزل خالقنا وخالق الناس أجمعين .. ينـزل إلى السماء الدنيا ، فـتفتح أبواب السماء ، ثم يبسط يده جل وعلا فينادي عباده – وهو الغفور الرحيم الجواد الكريم- قائلاً : ‏هل من سائل فأعطيه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟  هل من داع فأستجيب له ؟  هل من تائب فأتوب عليه؟ وهذا في كل ليلة .

النهار : لقد قلت أيها الليل ما يجعل كل مسلم يتلهف إلى مجيئك كل يوم .

الليل : بالتأكيد ، فما أعظمه من فوز لمن قام في تلك السويعات ، فصف قدميه ورفع يديه متطهراً مستقبلاً القبلة يناجي ربه ويتضرع إليه ، فلا تسأل عن حلاوة المناجاة ، ولذة تلك اللحظات .

*   **   *

وههنا لم يعد في الوقت متسع ليستمر الحوار بينهما ، فقد غاب قرص الشمس الأحمر في الأفق ، وأطبق الظلام جهة المشرق ، وقبيل أن يتفرقا حانت منهما التفاتة إلى الأرض ، وإذا الناس قد وقفوا يستمعون ويستمتعون بحديثهما ، فالتفتا كلاهما إلى الناس وقالا لهم :

إن ربنا لم يخلقنا عبثاً بل لأجلكم أنتم .. لمحبته الخير لكم .. للطفه ورحمته بكم .. لـيُـذكِّركم بجلاله وعظمته وحكمته ، فتشكروه وتعبدوه حق عبادته (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) .[7]

*  *    *

كلمات للتأمل:

قال نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام : إن هذا الليل والنهار خزانتان ، فانظروا ما تضعون فيهما .

وقال عمر بن عبدالعزيز : إن الليل والنهار يعملان فيك ، فاعمل فيهما .

وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه ، نقص فيه أجلي ، ولم يزد فيه عملي .

[1]*     نشر بتاريخ 26 ربيع الأول 1430

[2]     المقصود بالجديدين : الليل والنهار . ولهما أسماء أخرى عند العرب منها الأحدان ، والعصران ، والأبردان ، والخافقان .

[3]    النباء  11

[4]   الإسراء  12

[5]   القصص   72

[6]   الأنعام   96

[7]    الفرقان   62

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *