لا تعليق
هذه قصة فتاة عاشت قبل أكثر من سبعين سنة، كانت حياتها مليئة بالأحداث، زاخرة بالعِبر، ناضحة بالفِكَر.
حياة عنوانها الابتلاء، وفصولها الصبر، ومدادها الرضا.
ففي قرية تغفو على ضفاف وادٍ بين جبلين كأنها طفلة بين ذراعي أمٍ حنون، نشأت تلك الفتاة يتيمة الأب، وقضت طفولتها مع أخيها وأختيها في كنف أمهم التي أفاضت عليهم من حبها، وأغدقت عليهم من عطفها وحنانها؛ وكان من حرصها واهتمامها بهم أن ألحقت البنات بحلقة عند (المطوّعة) ليتعلمن القراءة والقرآن، ثم لما قرّت عينها ببلوغهن، رأت أهل قريتها وأولادهم يعدون العدة للذهاب إلى الحج، فهاجت في قلبها لواعج الحسرة، وفاضت من عينها دموع الأسى ألاّ تجد ما تُلحق به بناتها بذلك الركب المبارك، التفتت فإذا كل ما تملكه في الدنيا بضع نخلات تستظل بظلها وتقتات من ثمراتها، لكنها آثرت أن تبيعها وتدفع ثمنها لمن يمكـّن بناتها من أداء فريضة الحج.
ما إن بلغت فتاتنا الرابعة عشرة من عمرها حتى تقدم للزواج منها رجل قد توفيت زوجته تاركة وراءها ثلاثة أولاد صغار، فلم تتردد بالزواج منه تلبية لنصح أمها وطاعة لها، فانتقلت إلى حياتها الجديدة وبيتها الجديد لتهتم بزوجها وترعى أولاده الصغار بالرغم من حداثة سنها.
مضت السنون ورزقها الله بولد وابنتين، لتبدأ صنوف الابتلاء تتعاقب على بيتها، وصروف الزمان تتناوب على حياتها.
ابنها الأكبر الذي عقدت عليه أجمل الآمال وحلمت بنفعه لها أبهى الأحلام، سقط صريعاً أمامها فتبعثرت آمالها وتعثرت أحلامها.
حزنت عليه حزناً شديداً، وبكت عليه زمناً مديداً، لكنها بإيمانها وصبرها ومع مضي الأيام ورؤية بنتيها تحيطان بها وتسلية زوجها لها بدأت في نسيان مصيبتها رغم شدة وقعها على نفسها.
وفي صبيحة يوم جديد أفاقت على صوت حشرجة أنفاس ابنتها وهي تودع الدنيا أمام ناظريها، فنكأت وفاتها جرحاً غائراً ظنت أنه لن ينكأ، وأشعلت ناراً في صدرها ظنت أنها انطفأت، فيا لله كيف لفتاة شابة أن تصمد، وكيف لأم والهة أن تصبر!
سارع زوجها ليكفكف دمعها ويمسح أحزانها، فاستطاع بلطفه أن يخفف من مصابها، وتمكن بقربه وحنانه أن يداوي جراحها، فزاد تعلقها به حتى تمكن حبه من قلبها ووجدت في قربه سلوتها وعزاءها.
مضت أسابيع قليلة على تلك الحال، وإذا الموت يقتحم بيتها للمرة الثالثة في بضعة أشهر، لكنه هذه المرة اختطف زوجها من أمامها، زوجها الذي كان نور عينيها وقرة مقلتيها، فمن ذا الذي يواسيها بعده وقد كان حبيبها، ومن ذا الذي يسليها بعده وقد كان رفيقها؟
لقد تجرعت غصص فراقه وكأنه لم يمت زوج لامرأة قبلها قط، وتسربلت بثوب الأحزان وكأنه لم يلبسه قبلها أحد!
بعد أن خلا بيتها من طيف زوجها، وافتقدت جنباته ضحكات أطفالها ولم يعد معها سوى ابنتها الصغيرة، ضمتها إلى صدرها وحملتها وعادت بها إلى بيت أمها لتعيش معها.
تركت الفتاة بيتها لكنه لم يتركها، فجنباته تتراءى أمام عينيها، ففي تلك الردهة كانت تلاعب صغيراتها، وفي تلك الغرفة كانت تسامر زوجها.
مشاهد الماضي المؤلمة تموج في خيالها، ونبرات أصوات صغارها الحزينة تدوي في أذنيها، فلم تعد تهنأ بعيش، ولا يطيب لها طعام، لقد أحاطت بها الهموم من كل جانب فخشيت أن يتمكن منها الشيطان فلا يتركها حتى يطيش عقلها وتيأس من رحمة ربها، فلجأت إلى ملاذ المكروبين وانطرحت أمام مغيث الملهوفين، وعلّقت قلبها بسلوة الصابرين.. الله جلّ جلاله.. فهداها سبحانه إلى كتابه العظيم، القرآن الكريم، فكانت توقد السراج لتتلوه آناء الليل، وكانت تنـزوي في غرفتها لترتله أطراف النهار حتى حفظته كاملاً، فأنست به بعد وحشة، وسلت به بعد كربه.
لقد وجدت فيه مبتغاها، ومن وجد الله فماذا فقد؟
***
بعد زمن تقدم شاب لخطبتها؛ فتزوجها ومكث معها عدة أشهر، ثم أراد السفر إلى تهامة ليعمل هنالك، فودَّعها بعدما أودع جنيناً في بطنها، ثم عادت لبيت أمها لتلد ابنتها (نوره) ولتبقى عينا تلك الطفلة خمس سنين لا تكتحل برؤية أبيها. وعندما عاد مكث عندهم سنين أنجبت فتاتنا خلالها ابنتها الثانية (سلمى).
شدت الأسرة الصغيرة رحالها إلى مكة، وهنالك وأمام الكعبة المشرفة شعرت فتاتنا كأنما ولدت من جديد، فإذا الروح غير الروح، وإذا الأرض غير الأرض، كانت كل ليلة بل كل حين وآن ترفع كفيها إلى السماء تناجي ربها وتسأله أن يصبح عمل زوجها في مكة.
كم كانت تكرر هذا الدعاء في ليلها ونهارها، لكنها لم تلحظ أن ما طلبته يحتاج إلى شيء آخر!
عادت الأسرة إلى قريتها في نجد ومكثت فيها ما شاء الله لها أن تمكث ثم توجه الزوج إلى تهامة ليعمل فيها، وبعد سنة دعا أسرته للقدوم إليه فجاءته، ولم يكد يلتئم شمل الأسرة مجدداً إلا ويسافر الزوج بمفرده، لتبقى ابنتاه وزوجته وجنين في بطنها ينتظرون عودة أبيهم.
بعد أشهر، وضعت فتاتنا ابنا كالبدر، طارت به فرحاً، وسارعت بإرسال برقية إلى أبيه تزف إليه البشرى، فما كاد الخبر يصل إلى الأب حتى بادر بالرد ببرقية لها أن سمّوا ولدي هذا (عبدالرحمن).
لقد ملأ ( عبدالرحمن ) قلب أمه فرحاً قبل أن يملأ بيتها أنساً.. لكن ذكريات الماضي تؤرقها، فأصبحت تتوجس خيفة كلما بكى طفلها، وترتعد خوفاً كلما ألـمّ به عارض عندها، وكانت تنادي ابنتها الصغيرة (نورة ) وتقول لها : يا بنية! أنت صغيرة ليس عليك ذنوب، فادعي الله تعالى أن يحفظ أخاك (عبدالرحمن).
عاد الزوج يستبق الخطى ليرى أول أبنائه، فدخل بيته متلهفاً يرمي ببصره ليجد زوجته وحولها ابنتيه، أما (عبدالرحمن) فكان متوسداً الثرى في قبره!
بقيت الأسرة الصغيرة في تهامة تحن إلى قريتها الوادعة، وتشتاق إلى أهليهم وأحبابهم فيها، لكنها لا تستطيع إلى العودة سبيلاً بسبب عمل الزوج.
في بضع سنين حملت الأم مرة أخرى، وكانت تنتظر ابناً يُنسيها فقيدها (عبدالرحمن)، وكانت تخاف عليه وهو لا يزال جنيناً، فتضع يدها على بطنها وكأنها تتحسس ملامحه، وتمسح بأصابعها وكأنها تلاعبه، كلما تحرك حركة خفق قلبها خفقة، وكلما سكن برهة فاضت من عينها دمعة، لقد كانت تخشى أن يختطفه الموت من أمامها كأخيه، لكن ما خشيته لم يحدث!
في الأسابيع الأخيرة من الحمل مرضت هي فأحاطها زوجها برعايته حتى لا يكاد يفارقها..
ذات ليلة زادت آلامها فاقترب زوجها منها وأخذ يدها بين يديه وكأنه يريد أن يستبقي حبيبته معه..
نظرت إليه وأوصته بابنتيها نوره وسلمى..
حينها.. عَلِم أن أجلها قد حان.. رفع يدها.. يقبلها ويبللها بقطرات من دموعه..
أراد أن يلتقف يدها الأخرى لكن الأولى انسلت من بين يديه كما تنسل القطرة من فم السقاء..
وقعت يدها على الأرض وارتفعت روحها إلى السماء.
عاد الأب المكلوم بابنتيه الصغيرتين إلى قريتهم، وبقي يحيطهما بحبه وعطفه.. ثم ظهرت استجابة الله تعالى لدعوة زوجته الصالحة؛ فجاءه خبر نقل وظيفته إلى مكة فانتقل هناك دون صاحبة الدعوة.. فلربما نسيت وهي تدعو الله حينها أن تكون معه!
تلكم الفتاة هي جدتي (حصة بنت محمد بن عبدالله الـمقرن) عليها شآبيب الرحمة وسحائب الغفران.
كان لدى جدتي الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء، وكان عندها صدق اللجوء إلى ربِّ الأرض والسماء، وحسن التبعل للزوج والوفاء، وعندها، وعندها…
فيا فتاة الإسلام! هل عندك ما قد كان عند جدتي؟
هذا ما نرجوه ونتمناه.
[1] نُشر في بتاريخ 17 شعبان 1432 الموافق 18 يوليو 2011
لا تعليق