مُدَوّنة منصور بن محمد المقرن

لا تعليق

القُرْب محبوب للجميع .. القُرْب من أشخاص نحبهم كالوالدين، والأسرة، والأقارب، والأصدقاء. والقُرْب كذلك من أماكن نستمتع فيها، كالحرمين الشريفين والطبيعة الخلاّبة، أو حتى القُرْب من مكان العمل، وقد قيل: ” على أن قُرْب الدار خير من البُعد”.

وقد حثَّ الشارع الحكيم على القُرْب من مواضع معينة، كالقُرْب من الإمام، وخاصة في صلاة الجمعة، أو القُرْب من فئة محددة كالقُرْب من الصالحين.

فالقُرْب من نِعَم الله تعالى على الناس؛ ولذلك امتنّ الله سبحانه على الأب بقرب أولاده إليه، حين يراهم ويستمتع بمشاهدتهم أمامه، فقال سبحانه (ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُۥ مَالًا مَّمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا) المدثر 11-13 .. بل جعل الله عز وجل القُرْب أحد أنواع النعيم في الجنة، فقال سبحانه عن ثمارها: (قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ) الحاقة 23 . قال ابن كثير : “أي قريبة التناول، يتناولها القائم والقاعد والمضطجع” . وقال تعالى: (وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَـٰلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً) الإنسان 13 . فأهل الجنة – جعلنا الله من أهلها- قريبون من ظل الأشجار، قريبون من الثمار ..

*******

أما أجمل قُرْبٍ إلى بشر وأبهاه وأروعه، فهو القُرْب من الحبيب محمد r في الجنة، ولِعظم هذه المكانة فقد سألها الصحابة رضوان الله عليهم؛ فقال أحدهم: ” يا رسول الله إني أسألك مرافقتك في الجنة”. فقال له: “فأعني على نفسك بكثرة السجود” (أي في الصلاة) رواه مسلم. وكان الآخر يسأل الله في جوف الليل ذلك القُرب الشريف، فيقول: “اللهم إني أسألك مرافقة نبيك محمدٍ في أعلى جنة الخلد” رواه أحمد.

وتلك المرافقة الشريفة – على عُلو منـزلتها – قريبة ميسرة لفئة من المسلمين. قال r : (إنَّ من أحبِّكم إليَّ وأقربِكُم منِّي مجلسًا يومَ القيامةِ أحاسنَكُم أخلاقًا) رواه الترمذي.

*******

أما القُرْب الذي يُوصِلك إلى كل خير، ويدفع عنك كل شر، ويشرح صدرك، ويـيسر أمرك؛ فهو القُرْب من الله جلَّ جلاله .. فما أعظمه وأهنأه من قُرْب!

وقد نبهنا الله تعالى إلى ذلك القُرْب ودعانا إلى اللوذ بجنابه سبحانه، فقال على لسان نبيه صالح عليه السلام: (إِنَّ رَبِّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) هود 61 . قال السعدي رحمه الله : ” أي: قريب ممن دعاه دعاء مسألة، أو دعاء عبادة، يجيبه بإعطائه سؤله، وقبول عبادته، وإثابته عليها، أجل الثواب . واعلم أن قربه تعالى نوعان: عام، وخاص، فالقرب العام: قربه بعلمه، من جميع الخلق … والقرب الخاص: قربه من عابديه، وسائليه، ومحبيه “.

وقال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) البقرة 186 .

قيل تعليقاً على هذه الآية : ” أية رقة؟ وأي انعطاف؟ وأية شفافية؟ وأي إيناس؟ وأين تقع مشقة الصوم، ومشقة أي تكليف في ظل هذا الود، وظل هذا القرب، وظل هذا الإيناس، … إنها آية عجيبة . . آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة، والود المؤنس، والرضا المطمئن، والثقة واليقين . . ويعيش منها المؤمن في جناب رضي، وقربى ندية، وملاذ أمين وقرار مكين “.

فهو سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه في السماء وقريب بعلمه وإحاطته من عباده، بل هو أقرب إلى أحدنا من حبل الوريد، كما قال سبحانه: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ) ق 16.  قيل تعليقاً على هذه الآية: ” الوريد الذي يجري فيه دمه. وهو تعبير يمثل ويصور القبضة المالكة، والرقابة المباشرة. وحين يتصور الإنسان هذه الحقيقة لا بُدَّ يرتعش ويحاسب. ولو استحضر القلب مدلول هذه العبارة وحدها ما جَرؤ على كلمة لا يرضى الله عنها. بل ما جَرؤ على هاجسةٍ في الضمير لا تنال القبول. وإنها وحدها لكافية ليعيش بها الإنسان في حذر دائم وخشية دائمة ويقظة لا تغفل عن المحاسبة”.

*******

فيا مُحب القُرْب ومريده! إليك أحوالاً ومقامات جليلة تُقربك من ربك الجليل:

فمنها: السجود. قال r: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء) رواه أبو داود. ويزداد قُرْب العبد على تلك الحال إن كان في وقت الأسحار ، قال r: (إنَّ أقربَ ما يكونُ الربُّ من العبدِ جوفَ الليلِ الآخرِ فإنِ استطعتَ أن تكون ممن يذكرِ اللهَ في تلك الساعةِ فكُنْ ، فإنَّ الصلاةَ مشهودةٌ محضورةٌ إلى طلوعِ الشمسِ) رواه ابن عبدالبر . قال ابن القيم رحمه الله: “السجود سر الصلاة وركنها الأعظم وخاتمة الركعة وما قبله من الأركان كالمقدمات له فهو شبه طواف الزيارة في الحج …فأمر بالسجود إذ هو غاية خشوع الظاهر وأجمع العبودية لسائر الأعضاء فيعفر وجهه في التراب استكانة وتواضعاً وخضوعاً وإلقاء باليدين. قال مسروق لسعيد بن جبير: ما بقي شيء يرغب فيه إلا أن نعفر وجوهنا في التراب له سبحانه” .

ومنها: ذِكر الله عز وجل. قال ابن القيم رحمه الله عن فضائل الذِكر: ” أنّه يُورثه القُرْب منه (سبحانه)، فعلى قدر ذكره لله عز وجل يكون قربه منه، وعلى قدر غفلته يكون بعده منه “. وفي الأثر: ” أهل ذكري أهل مجالستي “.

ومن أعظم ما يُقرب العبد من ربه: التذلل والخضوع له، وإظهار الافتقار إليه سبحانه. وما أكثر من يجهل هذه العبادة القلبية العظيمة الأجر، التي تنفي العُجب عن النفس، وتستمطر العون والتوفيق والرحمات من الله جلَّ جلاله. قال ابن القيم رحمه الله: ” يُحكى عن بعض العارفين أنه قال: دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها، فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام، فلم أتمكن من الدخول، حتى جئت باب الذل والافتقار، فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه، ولا مزاحم فيه ولا مُعَوِّق، فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته، فإذا هو سبحانه قد أخذ بيدي وأدخلني عليه”. وقال في موضع آخر: ” فلا شيء أنفع للصادق من التحقق بالمسكنة والفاقة والذل، وأنه لا شيء، وأنه ممن لم يصح له بَعدُ الإسلام حتى يدَّعي الشرف فيه. ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه من ذلك أمراً لم أشاهده من غيره. وكان يقول كثيراً: ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا فيَّ شيء … وكان إذا أثنى عليه في وجهه يقول: والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعد إسلاماً جيداً”.

وقال رحمه الله عن مشهد ذل العبد وانكساره وخضوعه وافتقاره لله عز وجل: “ فيشهد (العبد) في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة تامة، وافتقاراً تاماً إلى ربه ووليه، ومن بيد صلاحه وفلاحه، وهداه وسعادته، وهذه الحال التي تحصل لقلبه لا تنال العبارة حقيقتها، وإنما تُدرك بالحصول، فيحصل لقلبه كَسرَة خاصة لا يشبهها شيء، بحيث يرى نفسه كالإناء المرضوض تحت الأرجل، الذي لا شيء فيه، ولا به ولا منه، ولا فيه منفعة، ولا يُرغب في مثله، وأنه لا يصلح للانتفاع إلا بجبر جديد من صانعه وقيَّمه، فحينئذ يستكثر في هذا المشهد ما مَنَّ ربه إليه من الخير ، ويرى أنه لا يستحق قليلاً منه ولا كثيراً، فأي خير له من الله استكثره على نفسه، وعَلِم أن قدره دونه، وأن رحمة ربه هي التي اقتضت ذِكره به، وسياقته إليه، واستقل ما من نفسه من الطاعات لربه، ورآها ولو ساوت طاعات الثقلين من أقل ما ينبغي لربه عليه، واستكثر قليل معاصيه وذنوبه، فإن الكسرة التي حصلت لقلبه أوجبت له هذا كله. فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور! وما أدنى النصر والرحمة والرزق منه! وما أنفع هذا المشهد له وأجداه عليه! وذرة من هذا ونَفَسٌ منه أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المدلين المعجبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم، وأحب القلوب إلى الله سبحانه قلب قد تمكنت منه هذه الكسرة، وملكته هذه الذلة، فهو ناكس الرأس بين يدي ربه، لا يرفع رأسه إليه حياء وخجلا من الله”.

*******

وختاماً .. القارئ الفاضل:

إذا عشت لحظات قُرْبٍ جميلةٍ ماتعةٍ مع من تحب، فتذكر أعظم قُرْبٍ وأهناه وأروعه .. القُرْب من ربك العظيم الجليل .. واعمل لذلك .

وإذا اختلج في قلبك مرض من أمراضه المهلكة، كالعجب والرياء والحسد ونحوها، فتذكر قُرْب العليم الخبير منك، واطلاعه سبحانه على السرائر. ونقِّ قلبك وأصلح فساده .

وإذا رأيت شخصاً يتقرب إلى أحد الكبراء أو الوجهاء ويُريق ماء وجهه، ويُذهب مروءته عنده ليعطيه شيئاً من متاع الدنيا القليل -وكل متاعها قليل-فتقرب أنت إلى من يُحب قربك، ويفرح بمجيئك، ويباهي بمقدمك .. الله جلَّ جلاله، فاطرح حاجاتك عنده، وارفع مسألتك إليه، فهو الجواد الكريم، عنده خزائن السموات والأرض، وبيده نواصي العباد، وبين أصبعيه سبحانه قلوبهم، يُصرفهم في خدمتك، ويُسخرهم في حاجتك .. فتذلل له سبحانه وتملق، واسجد واقترب .

[1] نشر بتاريخ 23/4/1436

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *