ومن ذا الذي لا يطلب سكناً؛ سواء كان السكن المكاني، أو السكن الزماني، أو السكن النفسي؟
أما السكن المكاني وهي الدار التي ننزلها ونعيش فيها فهي مطلب لجميع الناس، حتى لو كان مجرد سكنٍ في قلب من يحبه، كما قيل:
يا ساكن القلب ما في القلب متسعٌ لغير حبك، أغلق بعدك البابا
إلا أنه سكن مؤقت قد لا يدوم، كما نبه إليه آخر فقال :
ما كل من سكن القلوب سيمكث
وقد عدّ الله سبحانه الدور التي نسكنها من نِعمِه التي أنعمها على عباده فقال (وَاللّهُ جعل لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً ) ، قال ابن كثير : “يذكر -تبارك وتعالى- تمام نعمه على عبيده بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم، يأوون إليها، ويستـترون بها، وينتفعون بها بسائر وجوه الانتفاع“.
وأول وأجمل وأبهى سكن سكنه بشر : الجنة ، عندما أسكن الله فيها أبانا آدم وزوجه (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)، لكنهما أخرجا منها بسبب الشيطان؛ فحُرِما المكث فيها , (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ) ، ولهذا حذّر الله عباده من خطر الشيطان و وسوسته بالتذكير بتلك الحادثة المؤلمة لهم، فقال سبحانه (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ )، والعجب بعد هذا أن يتخذ أناس الشيطان وحزبه ومنهجه بديلاً عن الله عز وجل وأوليائه وشرعه (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً).
قال ابن القيم، مشوقاً إلى الجنة، ومذكراً بأنها أولُ منزلٍ لأبينا :
وإن ضاقت الدنيا عليك بأسرها ولم يكُ فيها منزل لك يُعلم
فحيَّ إلى جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم
وليست البيوت مجرد مأوى لأهلها؛ بل تصبح سكناً وسعادة وطمأنينة لهم، متى عُمِرَت بالصلاة والذِكر، وخلَت مما يكدر ذلك كالتماثيل وأصوات المعازف، حيث وردت بهذا الأحاديث.
أما السكن الزماني فهو الليل الذي تسكن فيه الأجساد والأرواح بعد عناء ونصب العمل في النهار، قال الله ممتناً على عباده بإيجاد الليل لهم (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبصِرا )، وقال (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا ) قال السعدي: ” لما كان الخلق محتاجين إلى السكون والاستقرار والراحة، التي لا تتم بوجود النهار والنور { جَعَلَ } الله { اللَّيْلَ سَكَنًا } يسكن فيه الآدميون إلى دورهم ومنامهم“.
لكن ما أكثر الذين حرموا أنفسهم السكن والسكينة حين هجروا لذة النوم بالليل من أجل لهو ولعب.
ومن الطريف أن شاعراً متيّماً يُحب النوم في الليل والنهار ليس طلباً للسكن، وإنما لشيء آخر:
وإني لأهوى النوم في غير حينه لعل لقاء في المنام يكون
أما السكن النفسي فهو الزواج، الذي ذكره الله تعالى في معرض الحديث عن آياته العظيمة، فقال سبحانه (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً )، قال السعدي: (وَمِنْ آيَاتِهِ) الدالة على رحمته وعنايته بعباده وحكمته العظيمة وعلمه المحيط، (أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) تناسبكم وتناسبونهن وتشاكلكم وتشاكلونهن (لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَة) بما رتب على الزواج من الأسباب الجالبة للمودة والرحمة، فحصل بالزوجة الاستمتاع واللذة والمنفعة بوجود الأولاد وتربيتهم، والسكون إليها، فلا تجد بين أحد في الغالب مثل ما بين الزوجين من المودة والرحمة”. ومع كثرة وتنوع مُتع الدنيا ولذاتها إلا أن أعلاه وأطيبها الزوجة الصالحة، كما ورد في الحديث “الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ” رواه مسلم.
هذا الزواج الذي عدّه الله سكناً، ويُثمر مودة ورحمة بين الزوجين، اعتبره الماديون تكاليف مالية مرهقة، وارتباطات جسدية متعبة، ولهذا أعرض عنه من لم يتزوج منهم بعد، ولم يَسعَد به من تزوج.
وختاماً .. فحري لكل محب لنفسه، راغباً في راحته وطمأنينته أن يسعى لما سلف من أنواع السكن ويحققها حسياً ومعنوياً لينعم بها.
[1] نشر في موقع طريق الإسلام بتاريخ 13/4/1443 الموافق 18/11/2021