مُدَوّنة منصور بن محمد المقرن

يحرص كثير من محبي الخير من أهل الغنى والجاه على بذل أموالهم في مجالات النفع للأمة، ويتفاوت نفع ما يبذلونه تفاوتاً كبيرا بحسب أهمية المجال الذي يُبذل فيه، وحاجة الأمة له، وامتداد أثره واستمراره، -فضلاً عن ما وقر في قلب الباذِل-  قال الله تعالى (لَا يسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَـٰتَلَۚ أُولَـٰۤىِٕكَ أَعۡظَمُ دَرَجَة مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُوا مِنۢ بَعۡدُ وَقَـٰتَلُوا)، فلقد استوى الفريقان في الإنفاق، لكن من أنفق والأمة مستضعفة لا يلوح لها في الأفق نصرٌ ولا تمكين، أعظم أجراًً ممن أنفق بعد النصر والتمكين .

فالموفق من عرف فقه الأولويات عند أدائه لطاعة أو بذله لمال، وقد حرص الصحابة على هذا الفقه فكانوا يسألون الرسول r أي العمل خير؟ فإذا أجابهم ، قالوا : ثم أي ؟.

وعندما خرج الرسول r من بيته بعد صلاة الفجر، وكانت أم المؤمنين جويرية رضي الله عنها جالسةًً في مصلاها، ثم عاد الضحى وهي لا تزال في مصلاها تذكر الله تعالى، قال r (لقد قلتُ بعدك كلمات لو وُزِنَّ لرجحن بما قلتِ ، قلت سبحان الله عدد خلقه سبحان الله رضا نفسه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله مداد كلماته ). فهذا الذكر النبوي لا يستغرق قوله سوى وقت يسير جداًً، ومع ذلك زاد أجره على أذكار  استغرق قولها وقتاًً طويلاًً. فليست المسألة كثرة عمل فقط ولكن نوع العمل أيضاً .

وقد قيل:

من لي بمثل مشيك المدلل                  تمشي الهوينا ثم تجيء الأول

وإن  من أولى  الأعمال  والمجالات  التي  يتنافس  فيها المتنافسون  في البذل : تعليم الناس أمور دينهم، ليعبدوا الله تعالى على بصيرة، وليثبتوا أمام الفتن.

وتأمل في هذا الحديث عِظم أجر معلم الناس الخير  : ( إن الله وملائكته وأهل السموات  والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلّّون على معلم الناس الخير ) رواه الترمذي وصححه الألباني، فأصغر المخلوقات النملة تستغفر  لمعلم الخير، وأكبر المخلوقات الحوت  يستغفر أيضاً ، وما بينهما كذلك.

فما أعظم أجر من أنفق مالاًً ليُعلِّم الناس أمور دينهم، ويغرس فيهم مكارم الأخلاق، ويُحصنهم من المحرمات والرذائل، فيقوى بنيان المجتمع، وتسعد الأسر، ويطمئن الأفراد.

وإذا كان رجل قد دخل الجنة بسبب غصن شوك أزاله عن طريق المسلمين حتى لا يؤذيهم – كما ورد في الحديث الصحيح- فكيف بمن أزال عن المسلمين ما هو أعظم ضرراً من غصن الشوك؛ كمن أزال شبهة من عقولهم، أو شهوة من نفوسهم، أو تعاسة في حياتهم ؟

ولا شك أن حاجة الناس إلى ما يُصلح لهم دينهم أشد من حاجتهم إلى من يُصلح أبدانهم ومعايشهم، قال ابن القيم:  “الحاجة إلى الشريعة أشد من الحاجة إلى التنفس – فضلاً عن الطعام والشراب – لأن غاية ما يُقدّر في عدم التنفس والطعام والشراب ؛ موت البدن وتعطل الروح عنه , أما ما يُقّدّر من عدم الشريعة ؛ ففساد الروح والقلب جملةً , وهلاكُ إلى الأبد“. وقال شيخه ابن تيمية : ” حياة البدن بدون حياة القلب من جنس حياة البهائم، لها سمع وبصر، وهي تأكل وتشرب وتنكح“.

وقد حرص السلف على تعليم الناس والاستثمار فيما يكون نفعه متعدٍ للأمة لا ينقطع. لـمّا توفي ابن تيمية – وهو لم يتزوج – قال عنه تلميذه ابن كثير كلمة عجيبة تستحق التأمل، قال : (لم يترك ابن تيمية ولداً صالحاً يدعو له، لكنه ترك أمة صالحة تدعو له)، وصدق والله، ولو لم يكن لابن تيمية إلا تلميذه ابن القيم لكفى، فكيف وقد ترك علماء كباراً غيره.

وغني عن التذكير؛ أنه ليس المقصود من البذل في مجال تعليم الناس أمور دينهم هو التعليم التقليدي فحسب، كإنشاء المراكز العلمية والدعوية وإقامة الدروس والدورات الشرعية؛ بل يشمل كذلك البذل لدعم وسائل التواصل والتطبيقات والمواد الإعلامية ونحوها التي تقوم بنفس هذه المهمة الجليلة.

وختاماً .. فإن المنفق الموفق هو من لا يبذل ماله فيما تميل إليه نفسه وتحبه، بل فيما يكون أحب إلى خالقه ومولاه، فهو يُقدّم الأولوية الشرعية على الأولوية الشخصية.

 

نُشر في موقع طريق الإسلام بتاريخ 11/5/1443 الموافق 15/12/2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *