الرد على المستهزئ
يكثر عبر وسائل التواصل الاجتماعي ونحوها، سخرية واستهزاء عدد من الكُتّاب بأحكام الدين والمقدسات، ويقابل الدعاة والغيورون ذلك بردود يغلب عليها الجانب العلمي أو الوعظي؛ وكأن أولئك الكُتّاب – وهم قد اتخذوا آيات الله هزواً-ينتظرون بيان الحق لهم ليتبعوه، وكأن المقام معهم مقام دعوة ودلالة إلى الهدى، وليس مقام خصومة وعداوة وكبتٍ لهم.
وأشد ما نقرأه من ردود الدعاة على أولئك الكتاب هو وصفهم لهم بأنهم (ليبراليون)، وما علموا أن هذا الوصف يُعتبر بالنسبة لأولئك (وسام فخر) و (شهادة إنجاز)، وكان الأحرى تسميتهم بالمنافقين وهو الاسم الذي سماهم الله تعالى به.
وقد يكون منهج اللين والرفق في الرد عليهم هو أبرز الأسباب التي زادت من طغيان وسفه أولئك الكُتّاب.
ولعل من رأى صواب هذا المنهج في الرد قد أخذ بقول الله عز وجل لموسى وهارون عليهما السلام لمّا أرسلهما إلى فرعون: (فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلٗا لَّيِّنٗا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوۡ يَخۡشَىٰ). لكن المتأمل يجد أن المقام مع فرعون كان آنذاك مقام دعوة وليس مقام رد وخصومة؛ ولذلك لم يستمر موسى في منهج اللين مع فرعون لمّا رأى استكباره، فقال له حينئذ (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَٰفِرۡعَوۡنُ مَثۡبُورٗا) قال ابن عباس: أي ملعوناً، وقال آخرون: أي مخبولاً لا عقل له.
بل إن بعض المفسرين عزى أمر الله تعالى لنبييه باللين في القول؛ لما لفرعون من حق في تربية موسى عليه السلام. ورأى أبو حيّان الأندلسي في تفسيره أن ذلك اللين كان بسبب خشية موسى عليه السلام أول الأمر من بطش فرعون، حيث قال: ” كان أولاً موسى عليه السلام يتوقع من فرعون أذى كما قال (رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفۡرُطَ عَلَيۡنَآ أَوۡ أَن يَطۡغَىٰ) فأمر أن يقول له قولاً ليناً، فلما قال له الله: لا تخف وثق بحماية الله، فصال على فرعون صولة المحمي. وقابله من الكلام بما لم يكن ليقابله به قبل ذلك“
ومن تتبع آيات الكتاب العزيز وأحداث السيرة العطرة سيجد أن الغلظة والتكبيت والسخرية بالمخالف المعاند المستكبر مستفيضة ..
فمن ذلك: تشبيه الله تعالى للمنافق والكافر بأخس الحيوانات وهو الكلب، حيث قال سبحانه: (فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ ٱلۡكَلۡبِ إِن تَحۡمِلۡ عَلَيۡهِ يَلۡهَثۡ أَوۡ تَتۡرُكۡهُ يَلۡهَث) قال الحسن: “هو المنافق لا يُنيب إلى الحق، دُعي أو لم يُدعَ، وعظ أو لم يوعظ، كالكلب يلهث طردًا وتركًا“. وقال الرازي في تفسيره: “واعلم أن هذا التمثيل ما وقع بجميع الكلاب، وإنما وقع بالكلب اللاهث، وأخس الحيوانات هو الكلب، وأخس الكلاب هو الكلب اللاهث، فمن آتاه الله العلم والدين فمال إلى الدنيا، وأخلد إلى الأرض، كان مشبهاً بأخس الحيوانات، وهو الكلب اللاهث“.
وكذلك تشبيه الله جل وعلا الكافرين بالأنعام، بل وصفهم بأنهم أسوأ حالاً منها، فقال سبحانه: (أُوْلَٰٓئِكَ كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ)، قال السعدي: “بَلْ هُمْ أَضَلُّ من البهائم، فإن الأنعام مستعملة فيما خلقت له، ولها أذهان، تدرك بها، مضرتها من منفعتها، فلذلك كانت أحسن حالا منهم“.
ومن ذلك: أمر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بالغلظة على المنافقين، فقال سبحانه: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَٰهِدِ ٱلۡكُفَّارَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱغۡلُظۡ عَلَيۡهِمۡ) قال ابن عباس: ” الكفار بالقتال، والمنافقين أن يغلُظ عليهم بالكلام“. وقال: ” قَوْلُهُ: (وَٱغۡلُظۡ عَلَيۡهِمۡ) أي أَذْهِبِ الرِّفْقَ عَنْهُمْ“. وقال عطاء: “وهذه الآية نسخت كل شيء من العفو والصفح“.
ومن ذلك: استثناء الله تعالى المجادلين الظالمين من المجادلة بالحسنى، فقال سبحانه: (وَلَا تُجَٰدِلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ) .قال ابن تيمية : “فمتى ظَلَمَ الـمُخاطَب لم نكن مأمورين أن نجيبه بالتي هي أحسن“.
ومن أظهر الأدلة وأقواها على مشروعية الاستهزاء بالمكابر وفضحه، ووصفه بأقبح الأوصاف وأشنعها، ما ذكره الله تعالى عن الوليد بن المغيرة في سورة (القلم) حيث قال سبحانه: ” (وَلَا تُطِعۡ كُلَّ حَلَّافٖ مَّهِينٍ، هَمَّازٖ مَّشَّآءِۢ بِنَمِيمٖ، مَّنَّاعٖ لِّلۡخَيۡرِ مُعۡتَدٍ أَثِيمٍ، عُتُلِّۢ بَعۡدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ). قيل: (مهين) أي حقير. وقيل في معنى ( زنيم) هو ولد الزنا الملحق بالقوم في النسب وليس منهم. قال ابن الجوزي في زاد المسير: “ولا يُعلَم أن الله تعالى بَلَغ من ذكر عيوب أحدٍ ما بلغه من ذكر عيوب الوليد، لأنه وُصِف بالحلف، والمهانة، والعيب للناس، والمشي بالنميمة، والبخل، والظلم، والإثم، والجفاء، والدِّعوة، فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة“. فتأمل!
وتماشياً وامتثالاً لتلك الآيات السالف ذكرها ونحوها؛ فقد أغلظ الصحابة أيّما غلظة على المخالفين المستهزئين المعاندين، وبحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم وإقراره لهم.
ففي أثناء مفاوضات صلح الحديبية، روى البخاري أن عروة بن مسعود قال للرسول صلى الله عليه وسلم: أي محمد! أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك، وإن تكن الأخرى فإني والله لأرى وجوها وإني لأرى أوشاباً من الناس خليقاً أن يَفِرّوا ويَدَعُوك. فقال له أبو بكر رضي الله عنه : امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه… الحديث”. قال الحافظ في الفتح: “وفيه جواز النطق بما يُستبشع من الألفاظ لإرادة زجر من بدا منه ما يستحق به ذلك“. فتأمل –يا رعاك الله- كيف كانت غيرة ورَدّ أبي بكر على عروة وهو لم ينتقص الدين إنما استهزأ وانتقص أهل الدين. فما أقبح الورع البارد مع المستهزئين!.
ولمّا اصطف الجيشان للقتال في غزوة أحد، خرج رجلٌ يُقال له سِبَاعٌ فقال: هل من مُبارز؟ فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فقال: يا سِبَاع! يا ابن أم أنمار مُقَطِعة البُظور! (أي كانت تُختِن النساء) أتحادُ الله ورسوله؟. ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهِ حتى قتله. رواه البخاري. لقد عمد حمزة إلى القضاء على الروح المعنوية لسِباع حتى لو كان قاب قوسين من القضاء على روحه الجسدية.
وروى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم انطلق والمسلمون يمشون معه إلى رأس المنافقين عبدالله بن أبي، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم، قال له عبدالله: “إليك عني، والله لقد آذاني نتن حمارك. فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله أطيب ريحاً منك“. فما أجمل الغضب والغيرة لدين الله تعالى!
وهجا حسان رضي الله عنه ابن الزبعرى الذي كان يفخر بأصوله فقال له :
فلا تفخـر فقد غلبت قديمًـا | عليـك مشــابه من آل حـــــام |
فقد رأى حسان أن ابن الزبعرى يغلب على أصوله السواد، مما يعني أنه غير عربي، فالعرب ساميون، والساميون ليسوا سُودا.
وإذا كان بعض الدعاة لا يرى استخدام أسلوب الشدة والاستهزاء بالمستهزئين المعاندين لاعتبارات معينة يرونها؛ فإن غيرهم من الغيورين يسعهم ما وسع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم -الذين اتبعوا منهج القرآن – وأغلظوا القول واستهزأوا بالمستهزئين المستكبرين.
وختاماً .. فلنا أن نتساءل: هل سيستمر المستهزئون بالله ودينه ورسوله في استهزائهم لو رَدَّ عليهم الغيورون بأسلوب لاذع ساخر غليظ؛ يجعلهم يستحيون من غشيان المجالس والسير في الطرقات؟.
[1] نشر على الشبكة بتاريخ 1/8/1438
بوركت أبا محمد
وجزاك الله خير الجزاء
مؤصّل علمي قويّ في وقته
الحمد لله على فضله
وأحسن الله إليك ووفقك