مُدَوّنة منصور بن محمد المقرن

قبل عقدين من الزمن أو ثلاثة كانت الكيانات الدعوية محدودة الإمكانيات والموارد، ولكنها كانت تُقدم برامج دعوية تُعزز الإيمان، وتصحح المفاهيم، وتُفعِّل المدعوين للدعوة، وكان يتخللها شيئاً من الفقرات الترفيهية ، وبعضاً من الدورات الخفيفة، لتكون عامل جذب إضافية، ولتضفي شيئاً من الملح على البرامج العلمية والتربوية الجادة، وبمقدار ما يُعطى الطعامُ من الملح.

 

والآن، ومع ازدياد موجة الشبهات وسيل الشهوات، تظهر الحاجة أكثر من ذي قبل لتلك البرامج النوعية، إلا أن من يطّلع على أغلب البرامج في الكيانات الدعوية الآن يجد أن واقعها أصبح بعكس حالها سابقاً، حيث أمست برامج الترفيه ودورات الأشغال اليدوية ومهارات برامج التواصل ونحوها هي السائدة في عموم البرامج، فقد صار اليوم ملح الأمس طعاماًً، وطعام الأمس ملحاًً.

فكيف لمتربي أن يتزكى، وكيف لمستهدَفٍ أن يتحصن، وكيف لمدعوٍ أن يدعو ؟!

ولك أن تقرأ إعلانات كثيرٍ من البرامج لترى افتقادها للأصول الدينية والركائز الإيمانية كتعظيم الله تعالى في القلوب، وتعزيز محبة النبي r في النفوس، وبيان محاسن الدين وكماله، وتعظيم الاهتمام بالآخرة، وبناء  المفاهيم الصحيحة والقيم السامية.

هذه الأصول والركائز هي التي تبني – بإذن الله- جيلاً راسخ الإيمان، عاملاًً بشرائع الإسلام، داعياً إلى دينه، صابراً على الأذى فيه.

وإذا كان النبي r قد استعاذ من علمٍ لا ينفع، فكيف هو الحال مع تزجية وقت بمناشط لا تنفع. وعندما سُئل r : متى الساعة؟ وجه السائل والأمة إلى الانشغال بالعمل الجاد لها، فقال : ماذا أعددت لها؟.

 

يقول المربي الفاضل د. محمد الدويش: “التربية الجادة ضرورة، وبدونها سنظل نتيه في حلقات مفرغة قليلة الجدوى من حيث نتصور أننا نُـنتج ونعمل“. وصدق والله، فما أكثر البرامج الآن، وما أكثر من يعمل فيها، وما أكثر الأوقات و المبالغ التي تنفق عليها، وفي المقابل انظر إلى ثمارها وآثارها.

وقد يسرد بعض القائمين على هذه البرامج أسباباً لهذا التغير:

 

منها : ندرة الكوادر القادرة على بناء وتنفيذ برامج تربوية  جادة

ويمكن القول هنا أن الكوادر التي بنت ونفذت البرامج الجادة في السنوات الماضية لا زالت موجودة في الساحة، فمن بحث عنها وجدها، وإذا كان عددهم غير كافٍ فيمكن للجهات التربوية تأهيل طاقات جديدة، وتشكيل فرق تربوية لتقديم مساندتها للجهات الراغبة في بناء البرامج الجادة.

 

ومنها : ضعف همم المستهدفين ورغبتهم في البرامج الترفيهية والخفيفة

وهذا السبب وإن صح أحياناً إلا أنه لا يحسن بالمربين أن ينجرفوا وراء رغبات أصحاب الهمم المتدنية والاهتمامات الصغيرة، بل الأولى عرض وتقديم البرامج الجادة، ولن يعدموا من يلتحق بها؛ إما رغبة بها ابتداء، أو بسبب تشجيع ودفع أولياء أمور المستهدفين للتسجيل فيها، وهؤلاء هم من سيحمل همَّ الدين والدعوة إليه، والثبات عليه. وقد حثت الشريعة على ضرورة الاحتفاء والاهتمام بمن يأتي راغباً في الخير مريداً له أكثر من غيره ، بل بلغ الأمر لتقرير هذه القاعدة مبلغاً عظيماً عند الله جل وعلا ، حيث عاتب خير رسله وأصفيائه محمد r على عبوسه في وجه صاحبه ابن أم مكتوم الأعمى t في القصة المشهورة ، فقال جل وعلا : (وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسعَى وَهُوَ يَخشَى فَأَنتَ عَنهُ تَلَهَّى).

قال السعدي رحمه الله : “وهذه فائدة كبيرة، هي المقصودة من بعثة الرسل، ووعظ الوعاظ، وتذكير المذكرين، فإقبالك على من جاء بنفسه مفتقراًً لذلك منك ، هو الأليق الواجب … وأنه ينبغي الإقبال على طالب العلم، المفتقر إليه، الحريص عليه أزيد من غيره ” .

 

ومنها : السعي للاستكثار من أعداد الملتحقين بتلك البرامج لتعزيز الصورة الإيجابية عن الكيان الدعوي، ولتسهيل جلب أموال المانحين والداعمين

من تتبع مسار الدعوة وخاصة في صدر الإسلام وجدها لا تستكثر بالأرقام بل تعتني ببناء ونوع الأرقام. لما حاصر خالد بن الوليد t بلاد الحيرة طلب المدد من أبي بكر t، فأرسل له القعقاع بن عمرو t وقال له : يا خالد أرسلت لك رجلاً بألف رجل.

وقال عمر بن الخطاب t : لو كنت مُتَمَنِّياً، ما تمَنَّيْتُ إلا بيْتاً مملوء بِرِجالٍ مثل أبي عُبَيْدة.

 

ختاماً، فقد كان للمؤسسات المانحة في السابق أثراً حميداً ومشكوراً في جودة وقوة البرامج التي تقدمها الكيانات الدعوية، والمأمول أن  تستمر على هذا النهج الموفق، ولا تكون سبباً في تقديم برامج ضعيفة المحتوى، قليلة النفع.

بالـملح نُصلِح ما نخشى تغيّره                    فكيف بالـملح إن حلّت به الغِيرُ

[1] نشر في موقع طريق الإسلام بتاريخ 20/1/1443

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *