( لا ضَـيْرَ )

هذه الكلمة وردت في القرآن، وهي قصيرة في مبناها، عظيمة وعميقة في معناها. فمن قالها؟ ولمن قيلت؟ ولماذا قيلت؟

لمّا صدّق سحرة فرعون بنبوة موسى عليه السلام وآمنوا بالله تعالى، توعدهم فرعون بالقتل والصلب إذا لم يرجعوا عن إيمانهم، فقالوا له هذه الكلمة العظيمة (لا ضير)، أي لا نبالي بوعيدك ولا يضرنا. قالوها بلا تردد وبلا تلكؤ، ليقطعوا طريق المساومات والتهديدات، فإن مَن تنازل ومال في بداية الطريق شبراً فسينتهي به الـمَيلُ أميالاً، هذا إن بقي على الطريق أصلاً.

لكن كيف صمد السحرة أمام تهديد فرعون وهم يعرفون شدة بطشه، فهو يقتل الأطفال الرضّع فكيف بمن يتحداه من الكبار؟!.

لقد ذكر واستحضر السحرة – عند محاورتهم لفرعون- معاني إيمانية جليلة، منها:

قالوا -بعد كلمتهم (لا ضير)-: (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ)، إنّا راجعون لله تعالى، ولأن نصبر على عذابك القصير أهون من الصبر على عذاب الله تعالى الدائم إن بقينا على كفرنا وسحرنا.

وقالوا: (لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا)، فبعد أن عرفنا الحق والهدى، تذوقنا حلاوة الإيمان فطغى على مرارة البلاء، ووجدنا بردَ الرضا والتسليم فأذهب هواجس القلق والهلع من قلوبنا ، فانشرحت صدورنا، وارتفعت رؤوسنا، وزال ذُلنا لغير العزيز سبحانه.

وقالوا: (فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)، فلا تملك يا فرعون سوى هذه الحياة الدنيا القصيرة الفانية، أما الحياة الأخروية الأبدية فليس لك فيها أمر ولا نهي، هذا فضلاً أن قضاءك في الحياة الدنيا لا يكون إلا بأمر ربنا سبحانه.

وقالوا: (وَاللَّهُ خَيْرٌ وأبقى)، وما أروعها من كلمة للثبات. فالله جل جلاله (خيرٌ) لكونه خالقنا ونحن عبيده فهو أحق بالطاعة وليس الطغاة مهما ملكوا من قوة، وهو سبحانه يملك وحده حياتنا وموتنا، فلا نخاف من غيره،  ولكونه الرزاق سبحانه فعنده وحده رزقنا ورزق الخلائق فلا نخشى تهديداً بقطع أرزاقنا. كما أنه سبحانه (أبقى) فهو حي لا يموت، والطغاة وغيرهم يموتون، وهو (أبقى) سبحانه فنحن نستنصر به، ونتوكل عليه، ونلجأ إليه ونلوذ به في جميع أحوالنا.

وقالوا: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ )، فلا تستزلنا ثورة الحماس والفرح بالهدى فنـتكل على قِوانا وإيماننا، بل نلجأ إلى ربنا العزيز الرحيم ليملأ قلوبنا سكينة، ونفوسنا ثباتاً وعزيمة، ليس حال نزول البلاء فحسب بل إلى آخر أنفاس حياتنا.

ختاماً .. فإن مِن المسلمين مَن يتعرض لبلاء الضراء والشدة، ومِن المسلمين مَن يتعرض لبلاء السراء والشهوات والإغراءات،    وإن استحضار وإيمان الفريقين بتلك المعالم والمعاني القلبية التي استقرت عند السحرة تجعلهم – بإذن الله – ثابتين على الحق، نابذين للباطل، مستعلين على المغريات، مستخفّين بالإرجافات.

 

 

9 تعليقات

  • جزاك الله خيرا وبارك فيك أحسنت وأجدت وأفدت وصدق الله العظيم(ولله العزة ولرسوله وللمومنين ولكن المنافقين لايعلمون)

  • اللهم ارزقنا الايمان الكامل والصادق كما كان ايمانهم برحمتك يا ارحم الراحمين .. اللهم يا مقلب القلوب ثبنتا على دينك الى ان نلفاك.
    كلمة تبعث الهمه والثبات. وفقك الله ابا محمد والسلام

  • السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    جزاكم الله خير ،،،
    تدبر بديع وموفق لهذه القصة العظيمة والعجيبة ،
    فكيف في لحظة الحقيقة انقلب الكفر الى ايمان والعداء الى نصرة، وحب الدنيا الى حب الاخرة،
    حبذا لو تدبرنا سبب هذا الانقلاب الذي ظاهره انه فُحائي ولكن حقيقته أنه تراكمي، ولم يبقى لاظهارها الا هذا الحدث الذي أزال الشك الذي في قلوب السحرة على وجه الخصوص.
    فهم قد سمعوا دعوة موسى عليه السلام وعرفوا محتواها وغايتها ، ولكن لم يظهر لهم صدقها لعدم حدوث المعجزة التي تزيل المانع لديهم من التصديق وهو اعتقادهم ان آيات موسى عليه السلام الثلاث هي سحر ، وهم في يقينهم انهم سيهزمون سحره ويهزمونه ، فحينما ظهرت ان ماجاء به موسى ليس بسحر ولكنه حقيقة لا يقدر على فعلها شيطلن ولا مخلوق حينها جاء الايمان الذي استجاب معه جميع اثاره ولوازمه لذلك الذي صبرهم هو قوة ذلك الايمان الذي بلغ عندهم عين اليقين.
    والله تعالى اعلم

  • كلمة مؤثرة جداً حينما يقولها من لايملك من امره شئ في وجه من يملك اعتى قوة
    وهي تعمل على النكاية بالعدو واغاضته من جهة .. وتدل على قوة الايمان الراسخ في قلوب المؤمنين من جهة اخرى

    احسنت اختيار الكلمة ودلالتها والتعليق عليها حفظك الباري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *