مُدَوّنة منصور بن محمد المقرن

(وَأَنَا اختَرتُكَ)

يبتهج الواحد- في العادة- عندما يختاره من هو أعلى منه ليتولى مهمة أو منصباً، ويمكن أن يكون سبب البهجة والسرور ليس التكليف الجديد، أو الثقة الممنوحة فحسب، بل تصوّر الـمُكلّف أن اسمه وشخصه قد خطر ببال من كلّفه، كما يحدث مع العاشقين الذين يطيرون فرحاً إذا خطرت أسماؤهم وذكراهم  على بال محبوبهم حتى لو كان في ضرر يُصيبهم، فقد قال أحدهم:

ولو قيل طَأ في النار أعلمُ أنه

رضى لك، أو مُدْنٍ لنا من وِصالِكا

لقدّمت رجلي نحوها فوطئتها

سروراً لأني قد خطرتُ ببالكا

وكما هو معلوم، فإنه كلما عَلَت مكانة من كلّفك، وسَمَت المهمة والمنصب التي مُنحت إياها، كلما كان التكليف شرفاً وفخراً، والفرح والاعتزاز به أبلغ وأكمل، وليس هناك أحدٌ يُكلفُ أحداً، أعظمَ وأعلى من الله عزّ وجلّ، كما أنه لا تكليف أسمى وأرقى – بعد النبوة- من مهمة العبودية الحقة له سبحانه، قال الله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا)، ويزداد شرف التكليف بالعبودية ويعلو إذا قام الـمُكلَّف بمهمة الدعوة إلى عبودية الله تعالى، قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَفما أعظمها من منزلة وكرامة حيث جمعت بين عظمة الـمُكلِّف وسمو التكليف.

ومن العجيب أن تجد أناساً قد حظوا بهذا التكليف والاختيار والاصطفاء من الله تعالى، ثم تراهم لا يرفعون به رأساً، ولا يُقيمون له وزناً، والأعجب أن تراهم يُعجبون بحياة الكافرين الذين هم كالأنعام بل هم أضل، أو يغبطون عصاة المسلمين، ويشعرون بالحرمان عندما يرونهم في لهوهم واحتفالاتهم، واهتمام الإعلام والكبراء بهم.

ولا شك أن مردّ هذا الشعور بالحرمان هو ضعف الإحساس بنعمة الله تعالى عليهم باصطفائه لهم، ونقص التلذذ بالإيمان، وتذوق حلاوة الطاعة. وهنا يلزم التذكير بمعالم وأمور:

فمنها: أن الصالحين محبوبون عند الله تعالى، وحسبك بهذا شرفاً، فهم محبوبون عنده سبحانه لأنهم محسنون (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، ومحبوبون لأنهم توابون ومتطهرون من الذنوب والخطايا (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)، ومحبوبون لأنهم متقون (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)، ومحبوبون لأنهم صابرون على فعل الطاعة وترك المعصية، وعلى أقدار الله المؤلمة، وعلى أذى الخلق عند دعوتهم (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)، ومحبوبون من الله لأنهم متوكلون عليه (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).

ومنها:أن نعمة الهداية لا يعدلها نعمة، كيف لا وهي التي تقود إلى مرضاة الله والخلود الأبدي في جناته.    

ومنها: أن الله تعالى –بعدله- لا يُساوي بين عباده الطائعين والعصاة، سواء في الحياة الدنيا أو في الآخرة (أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)، لا يساوي بينهم -سبحانه- في الدنيا في انشراح الصدور، والرضا بالمقدور، وتيسير الأمور.

ومنها: أن المال والشهرة والمكانة التي يحظى بها العصاة ليست دليلاً على سعادتهم، حتى وإن بدا للناس –ظاهراً من ابتساماتهم وأحاديثهم- أنهم مسرورون، فضحكاتهم في الظاهر فقط أما قلوبهم فمظلمة كئيبة، كمثل الألعاب النارية التي تضيء السماء المظلمة قليلاً ثم تعود السماء لظلمتها، قال الحسن البصري عن حال العصاة: “إنهم وإن هملجت بهم البراذين (أي تبخترت بهم الخيل التركية) وطقطقت بهم البغال، إن ذل المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أن يُذل من عصاه)، وقال ابن القيم: “وإذا هانَ العَبْدُ عَلى اللَّهِ لَمْ يُكْرِمْهُ أحَدٌ، كَما قالَ اللَّهُ تَعالى: (وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن مُكْرِمٍوَإنْ عَظَّمَهُمُ النّاسُ في الظّاهِرِ لِحاجَتِهِمْ إلَيْهِمْ أوْ خَوْفًا مِن شَرِّهِمْ، فَهم في قُلُوبِهِمْ أحْقَرُ شَيْءٍ وأهْوَنُهُ“.

ومنها: أن يستحضر الرجل الصالح هذه الفوارق: إذا ذَكرَ وأثنى الإعلامُ والكبراءُ على العصاةِ، فإن اللهَ يَذكر الصالحين ويُثني عليهم عند ذكرهم له سبحانه، يقولُ اللَّهُ تَعالَى في الحديث القدسي: (أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي،  فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلأٍ ذَكَرْتُهُ في مَلأٍ خَيْرٍ منهمْ) متفق عليه، وإذا اعتنى وتولى الكبراءُ العصاةَ، فإن الله يتولى الصالحين (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواوإذا جالس العصاةُ الكبراءَ والمشاهير، فإن ملائكةَ اللهِ الأبرارِ يُجالسون الصالحين عند ذِكرهم لربهم ومولاهم. فأي الفريقين أعظم فرحاً، وخير مكاناً، وأحسن مقاماً عند ربه؟.

وتذكر دائماً –أيها الصالح- مَن الذي اختارك واصطفاك بالصلاح، وبماذا كلّفك وأشغلك، وارفع رأسك، واستقم كما أُمرت.

لا توجد أراء حول “(وَأَنَا اختَرتُكَ)”
  1. بارك الله فيكم

    ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾.
    ♦ السورة ورقم الآية: المائدة (54).

  2. وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا…)))
    تدبر عناية الله سبحانه بهذا العبد الصالح بعد وفاته وعنايته بابناءه من عبده وميزته انه كان عبدا صالحا.. هل بعدها يشك المؤمن في قيمة صلاحه عند ربه…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *