مُدَوّنة منصور بن محمد المقرن

15 تعليقات

(تغيّروا.. فتغيّر!)

من غشي مجالسَ أناسٍ مختلفي المشارب، وتابع حسابات وكتابات أشخاص متنوعي التوجهات؛ عرف حجم التغيّر الديني والثقافي في أي مجتمع، وأيّما خطيب أو داعية تغيب عنه تلك التغيّرات، أو لا يأخذها في الحسبان، فستبقى خطبه وأحاديثه وكتاباته لفئة محدودة، هي التي تُنصت لما يقول، وتقرأ وتفهم ما يكتب، أما الأغلبية فهي غائبة أو مُغيّبة عن مضامين الخطبة والكتابة.

لا يمكن لأحذق طبيب أن يُشخِّص حالة مريض إذا لم يستمع لما يقول ويفهمه، ولا يمكن لأفضل مهندس أن يُصمم منزلاً مناسباً لأحدٍ إذا لم يعرف احتياجه وحاله.

لا يزال بعض الخطباء والدعاة غائبين عن مجتمعهم، ليس في تصوراتهم ومفاهيمهم فحسب، بل حتى في كلامهم وألفاظهم، فلا يزالون يستخدمون عبارات وألفاظاً لا يعرفها الكثير من الناس، قال الإمام الماوردي (ت 450) فيما ينبغي مراعاته عند مخاطبة الناس: ” .. ثمّ يُعَبِّر عن ذلك كله بما كان مألوفاً من كلام الوقت، وعُرْف أهله، فإن لأهل كل وقتٍ في الكلام عادة تُؤلف، وعبارة تُعرف، ليكون أوقع في النفوس، وأسبق إلى الأفهام“. فكم فات الناس من فوائد –مثلاً- عند عرض السيرة النبوية، أو الأحكام الفقهية لأنها رُويت أو كتبت كما هي في كتب السلف دون شرح لغريب الألفاظ ومدلولاتها. فكم الذين يعرفون -مثلاً – عند الحديث في مسائل فقهية – معنى (قيد أنملة، فرسخ، قبل الزوال)، وكذلك عند عرض السيرة النبوية وغيرها. وبالتأكيد ليس المقصود ههنا ترك استخدام ألفاظ السلف، ولكن بيان معانيها ومدلولاتها عند إيرادها.

هذا فيما يتعلق بالألفاظ، فما بالك في  التغيّر الكبير في المفاهيم والتصورات والقيم، المخالفة للإسلام، فكم من الخطباء والدعاة الذين يعرفون تصورات المجتمع عن الكون والحياة –مثلاً- ويُصححونها ، وكذلك مفاهيمه عن حقيقة كلمة التوحيد أو السعادة أو النجاح –مثلاً-ويوضحونها، وأيضاً القيم التي تحكم مواقف وسلوك أفراده، ويرسخون هويته ليعتز بها، ونحو ذلك.

تجد الآن جُلّ خِطاب بعض الخطباء والدعاة عن الفضائل والآداب في وقت أشربت فيه قلوب الكثير بمحبة الدنيا وتعظيم أهلها والخوف من سادتها، فكيف تُخاطَب مثل هذه القلوب بفضائل ومستحبات وقد ضعف فيها أصول وواجبات؟ وكيف لكأس قد امتلأ خمراً أن يُسكب فيه لبنٌ؟، فالثوب المتسخ في حاجة إلى الغَسل والتنظيف ، قبل التطيـيب والتبخير، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) رواه مسلم، فما أكثر من يخطبون ويكتبون عن شُعب الإيمان الدنيا، ويغفلون عن شُعبه العليا!.

قال ابن تيمية: “التفريغ والتخلية التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم : أن يُفرِّغ قلبه مما لا يُحبه الله ويملؤه بما يحبه الله؛ فيُفرِّغه من عبادة غير الله، ويملؤه بعبادة الله، وكذلك يُفرِّغه عن محبة غير الله، ويملؤه بمحبة الله، وكذلك يُخْرِج عنه خوف غير الله، ويُدخِل فيه خوف الله تعالى، وينفي عنه التوكل على غير الله، ويُثبت فيه التوكل على الله؛ وهذا هو الإسلام المتضمن للإيمانمجموع الفتوى 401-10.

وقد ذكر ابن القيم -في كتابه الزاد- المعالم الرئيسة لخطب النبي صلى الله عليه وسلم، فتأملها وقارنها –رعاك الله – بخطب ومواعظ وكتابات كثير من الخطباء والدعاة، قال: “كانت خطبته صلى الله عليه وسلم ، إنما هي تقرير لأصول الإِيمان من الإِيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائِه، وذكرِ الجنة، والنار، وما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعدَّ لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب مِن خُطبته إيماناًَ وتوحيداً، ومعرفة باللّه وأيامه، لا كخُطب غيره التي إنما تُفيد أموراً مشتركة بين الخلائق

15 تعليقات

لا توجد أراء حول “تغيّروا.. فتغيّر!”
  1. صدقت والله
    في السابق كانت الأعناق تشرئب وتتطلع لما سيقوله الخطيب واليوم أصبحت الخطبة تحصيل حاصل وأقل ما تقوم به صلاة الجمعة. الخطبة أمانة في عنق الخطيب وعليه أن يستشعر ذلك واجتماع الناس له حجة عليه، عليه أن يستغل هذا الاجتماع فيما ينفعهم ويبصرهم بأمور دينهم قبل دنياهم لتبرأ ذمته و يتحقق المراد من هذا المنبر الأسبوعي العظيم

  2. توجيه قيم لمن يرددون الخطب على شكل سنوي من نفس الاوراق وقد حفظت من اغلب المصلين. ولكن لا احد ينتقد او ينصح
    آمل نشر المقال في اوسع نطاق.

  3. هي سلسلة من التنازلات في الخطاب الدعوي تكتفي بالفضائل والمستحبات نظرا لحال الناس وتستمر لتصل الى مادون ذلك مما لايُجدي نفعاً.
    بينما كان الاحرى إعادة غرس التوحيد واصول الايمان في النفوس (كما نقلت عن ابن القيم) بعد ان ضعف وهجها او غاب في هذا الزمان والتذكير بمراقبة الله عز وجل والجزاء والحساب
    بارك الله فيك ودمتم بود ،،

  4. أبو محمد
    السلام عليكم
    تذكير هام جدا
    لأعظم وسائل الدعوة
    الأسبوعية
    التي يجب على المسلم الإنصات فيها للخطيب، فلعل بعض الخطباء ينتبهون لذلك ولعل من يحضر لهم يذكرهم بعظم دورهم.
    بارك الله فيك وسدد قلمك ونفع بكم.

  5. كلام من الماس استاذ منصور
    كانت خطبة الجمعة بصفتها وكلماتها هي قمة البلاغة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لتحقيق غرض الوعظ والتعليم
    لكن للاسف في هذه العصور غفل عن الهدف واهتم الخطباء بالشكل والمفردة القديمة والسجع وابيات الشعر التي لا يكاد يفهمها الخطيب نفسه فضلا ان يفهمها الانسان العامي او حتى المتعلم فضلا عن بسطاء الناس من عمالة وغيرهم.
    نتج عن ذلك ان اصبحت خطبة الجمعة ثقيلة على النفوس ننتظر انقضائها لا يجلسنا فيها الا التعبد لله تعالى.
    لا زلت اذكر اياما كنت اصلي مع الشيخ د. عبدالله المطلق كانت خطبة الجمعة معه متعة يتمنى المصلي معه ان تطول.

اترك تعليقاً