(هذه هي الأهم !)

يعيش بعض الناس في هموم متراكمة، وغموم متلاحقة، وتشاؤم وأحزان متتابعة، ويسعى المصلحون –مشكورين- لمعالجة ذلك؛ لتنقشع عن أولئك سحب الهموم، ويزول عنهم ضباب الغموم؛ وذلك بتذكيرهم بنِعمٍ عظمى يرفلون بها ولا يستشعرون قدرها، وأول ما يَذكر بعض المصلحين من النعم الكبرى: نعمة الصحة ونعمة الأمن ونعمة المال والولد والطعام. ولا ريب أن هذه كلها من النعم العظيمة التي ينبغي التذكير بها؛ إلا أن هناك نعمة أعظم وأجل وأهم من تلك النعم، ينبغي أن تكون أولى النِعم بالتذكير.

هذه النعمة تجعل المرء يعيش في نعيم لا ينقضي وسعادة لا تنتهي، وتبقى معه حتى يدخل بها الجنة، أما تلك النعم فقد تذهب بزوالها أو بمفارقتها بموت أو غيره. وهذه النعمة لا يمكن أن تُسلب من صاحبها إلا بإرادته، أما تلك النعم فقد تُسلب منه بغير إرادته واختياره. وهذه النعمة لا تأتي على صاحبها إلا بخير، أما تلك النعم فقد تأتي بالوبال والفتنة. فنعمة الولد قد يصاحبها العقوق منه، ونعمة المال قد يفسدها عدم أداء حقه أو أن ينفقه في محرم، ونعمة الصحة والجمال قد تسخر في فتنة الناس، ونعمة الجاه والمكانة قد تستغل لظلم الناس، ونعمة الأمن والأمان قد تدعو إلى البطر والغفلة.

هذه النعمة الأهم والأعظم والأكبر هي: نعمة الهداية للإسلام. وتأمل -يا رعاك الله- هذه الحادثة لترى كيف كان السلف يستشعرون هذه النعمة ويُعظِّمونها. جاء (بِشر الحافي) إلى بيته فدخل برجله في الدار وبقيت الأخرى خارجه، واستمر على ذلك متفكراً حتى قيل له: فيم تفكرت؟ فقال: تفكرت في بشر النصراني، وبشر اليهودي، وبشر المجوسي، وفي نفسي، فقلت: ما الذي سبق لي من الله حتى خصني بالإسلام من بينهم؟ فتفكرت في فضل الله عليَّ وحمدته أن هداني للإسلام، وجعلني ممن خصّه به، وألبسني لباس أحبابه.

وقد أمر الله سبحانه المسلمين أن يفرحوا بنعمة الإسلام، فقال تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)، قال ابن كثير: “أي بهَذَا الَّذِي جَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ فَلْيَفْرَحُوا، فَإِنَّهُ أَوْلَى مَا يَفْرَحُونَ بِهِ، (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أَيْ: مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنَ الزَّهْرَةِ الْفَانِيَةِ الذَّاهِبَةِ لَا مَحَالَةَ“، وامتثل الصحابة الكرام لهذا الأمر، فقد قال أنس رضي الله عنه: (… فَما فَرِحْنَا، بَعْدَ الإسْلَامِ فَرَحًا أَشَدَّ مِن قَوْلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: فإنَّكَ مع مَن أَحْبَبْتَ) متفق عليه

ولتزيد معرفتك بعظيم نعمة الإسلام عليك؛ انظر في العالَم حولك تجد أن أكثر الناس على الكفر والضلال، وتجد أناساً شديدي الذكاء، عباقرة في علوم الدنيا، يجتهدون في حياتهم لدين باطل، بل ويبكون من أجله ويدافعون عنه، وبعضهم إمّا يعبد صنماً أو حيواناً أو يعبد هواه. قَالَ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ: “مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ نِعْمَةً أفضل مِنْ أَنْ عَرَّفَهُمْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ“.

ومعرفة نعمة الإسلام وجمال عقائده وأحكامه والفرح بها، يحمي بإذن الله من الانتكاسة أو الارتداد عنه؛ فعندما تحدث ابن القيم عن إيمان الناس واختلاف درجاته وقوته بينهم، ذكر أن أضعف الناس إيماناً من المسلمين من لا يعرف ويستشعر نعمة الإسلام وجماله، فقال: “وأضعف من هؤلاء إيماناً من إيمانه إيمان العادة والمَربى والمنشأ، فإنه نشأ بين أبوين مسلمين وأقارب وجيران وأصحاب كذلك، فنشأ كواحدٍ منهم، ليس عنده من الرسول والكتاب إلا اسمهما، ولا من الدين إلا ما رأى عليه أقاربه وأصحابه، فهذا دين العوائد وهو أضعف شيء، وصاحبه بحسب من يقترن به: فلو قيّض له من يُخرجه عنه لم يكن عليه كُلفة في الانتقال عنه“. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: “مَنْ لَمْ يُعْرَفْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِلَّا فِي مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ فَقَدْ قَلَّ عِلْمُهُ“.

ختاما .. فإن الواجب تجاه هذه النعمة هو: أن تستشعرها وتعرف قدرها وفضلها، وتذكِّر من حولك بها وبدورها الإيجابي في حياته، وتدعو إليها وتدافع عنها، وتحب من جاء بها وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتدعو لمن أوصلها إليك من الصحابة، ولمن جاهد لأجلها، وعلّمها الناس، وفوق ذلك كله تعمر وتملأ فؤادك بمحبة من هداك إليها من غير حولٍ منك ولا قوة، بل وزيّنها في قلبك؛ وهو الله جل جلاله، قال سبحانه عن أهل الجنة: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ)، وقال تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ).

39 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *