الزواج الـمُخيف !

يعزو كثيرٌ من الناس أسباب العزوف عن الزواج إلى ارتفاع تكاليفه، إلا أن هناك أسباباً أخرى عند الشباب لا تقل أهمية عنه، منها:

  • اعتبار الزواج مجموعة من القيود الأسرية والاجتماعية تمنع الاستمتاع بمباهج الحياة أو تحد منها.
  • النظر إلى الحياة الزوجية على أنها حلبة صراع دائم بين الزوجين، يسعى كل طرف لإثبات وجوده وبسط سيطرته.
  • الحياة الأسرية تستنزف مبالغ من دخل الزوج، والشاب يُحب أن يستمتع بدخله وحده بدل أن يشاركه أحدٌ فيه.
  • الاعتقاد بأن مجيء الأولاد سيؤدي إلى أعباء جديدة ومرهقة لرعايتهم وتربيتهم في ظل ظروف لا تُساعد على ذلك.

وتعود أصول هذه الأسباب إلى ضعفٍ في المفاهيم والتصورات تجاه الزواج، وإلى النظرة المادية والفردية التي تسيطر على كثير من الشباب. 

فأولاً: الزواج ليس مجرد علاقة تسمح بقضاء الوطر بلا شعورٍ بالإثم، وليس (بروتوكولا) يُضفي على الزوجين قيمة جديدة في المجتمع، وليس عادة ولا طريقاً لا بدَّ من سلوكه لإرضاء الآخرين. بل الزواج شعيرة دينية كبرى مأمور بها. ومما يبين عظمة الزواج وأهميته أن الله تعالى عندما عدّد آياته الكبرى الدالة على عظمته، كخلق السموات والأرض، واختلاف لغات الناس وألوانهم، والبرق، ونزول المطر؛ ذكر منها الزواج، فقال: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً)، قال ابن كثير: “أَيْ: خَلَقَ لَكُمْ مِنْ جِنْسِكُمْ إِنَاثًا يَكُنَّ لَكُمْ أَزْوَاجًا … وَلَوْ أَنَّهُ جَعَلَ بَنِي آدَمَ كُلَّهُمْ ذُكُورًا وَجَعَلَ إِنَاثَهُمْ مَنْ جِنْسٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ إِمَّا مِنْ جَانٍّ أَوْ حَيَوَانٍ، لَمَا حَصَلَ هَذَا الِائْتِلَافُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَزْوَاجِ، بَلْ كَانَتْ تَحْصُلُ نَفْرَة … ثُمَّ مِنْ تَمَامِ رَحْمَتِهِ بِبَنِي آدَمَ أَنْ جَعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنَّ مَوَدَّةً: وَهِيَ الْمَحَبَّةُ، وَرَحْمَةً: وَهِيَ الرَّأْفَةُ، فَإِنَّ الرَّجُل يُمْسِكُ الْمَرْأَةَ إِمَّا لِمَحَبَّتِهِ لَهَا، أَوْ لِرَحْمَةٍ بِهَا، بِأَنْ يَكُونَ لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ، أَوْ مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِ فِي الْإِنْفَاقِ، أَوْ لِلْأُلْفَةِ بَيْنَهُمَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ“. كما أن الزواج ميثاق عظيم وقوي بين الزوجين، أراده الله تعالى وشهد عليه؛ وفرض التزام كل طرف فيه برعاية الطرف الآخر ومعاشرته بإحسان وحب وود، فإن لم يكن هناك حب فلا أقل من المعاشرة بالرحمة.

وثانياً: إن معرفة فضائل الزواج وحِكَمه تشجع على الإقبال عليه، كمثل الحصول على الأجر جراء الامتثال للأمر النبوي بالزواج، (مَنْ اسْتَطَاعَ منكُم الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ) متفق عليه. وعندما تحصل الذرية، فإن الشاب يكون سبباً في افتخار النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة أفراد أمته أمام الأمم يوم القيامة، ففي الحديث: (انْكِحُوا، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ) رواه ابن ماجه، وكذلك يكون سبباً في وجود أنفسٍ على الأرض تعبد الله تعالى وتذكره، فينال أجر كل حسنة اكتسبوها، ومن منافعه أيضاً حماية المجتمع من الانحرافات التي تهدد تماسكه وترابطه.

وثالثاً: إذا عرف الشاب مفهوم الزواج ومكانته ومنافعه السالف ذكر بعضها، عاش فيه قرير العين مطمئن النفس منشرح البال، وعدَّ ما وجده في الزواج أثمن بكثير مما فقده: من فراغ وسفر وجلوس مع الأصدقاء ونحوه؛ ولم ينظر إلى الزوجة خصمًا في حلبة صراع، بل شريكة حياة تُعينه وتُواسيه فيها، فسكَن إليها وسكنت إليه؛ فكانت علاقتهما كما قال تعالى: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) قِيلَ: “الزَّوْجَانِ يَتَوادّانِ ويَتَراحَمانِ مِن غَيْرِ رَحِمٍ بَيْنَهُما“.

ورابعاً: يتردد بعض الشباب عن الزواج لأنه سيضطر إلى صرف بعض دخله لحاجات زوجته وأولاده، ومما يهوّن هذا الأمر عليهم، أن الله تعالى قد وعد الفقراء الراغبين في الزواج بالغنى، فقال سبحانه: (وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، قال أَبَو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه: “أَطِيعُوا اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنَ النِّكَاحِ، يُنْجِزْ لَكُمْ مَا وَعَدَكُمْ مِنَ الْغِنَى“، وقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: “عَجِبْتُ لِمَنِ ابْتَغَى الْغِنَى بِغَيْرِ النِّكَاحِ“، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “التمسوا الغنى في النكاح“، وقال ابن كثير: “وَالْمَعْهُودُ مِنْ كَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَلُطْفِهِ أَنْ يَرْزُقَهُ وَإِيَّاهَا“. وفي الحديث: (ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنهم: وذكر منهم النَّاكِحُ يُرِيدُ الْعَفَافَ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَة. ومما يشجع على الإنفاق على الزوجة والعيال حديثُ الرسول صلى الله عليه وسلم: (أَفْضَلُ ‌دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ: دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ) رواه مسلم، وحديث: (وإنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إلاَّ أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ في في امرأتِك) متفق عليه؛ فينال الزوج في هذه الحالة أجر الصدقة ومضاعفته كلما أنفق على أسرته، وهي نفقة لا تتوقف ليلاً ولا نهاراً.

وخامساً: بالنسبة إلى متاعب تربية الأولاد ورعايتهم، فإن الله تعالى قد رتب العون والرزق والأجر العظيم منه على ذلك، قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ)، قال ابن كثير: “إِذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ أَتَاكَ الرِّزْقُ مِنْ حَيْثُ لَا تَحْتَسِبُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِب)”. وفي الحديث (من عالَ جاريتينِ دخلتُ أنا وَهوَ الجنَّةَ كَهاتين وأشارَ بأصبُعَيْهِ) رواه الترمذي، ثم إنك ترى الرجل يتعب ويهتم من أجل عمله أو تجارته أكثر من تعبه وهمّه في رعاية أولاده وتربيتهم، ومع ذلك لا يكلّ ولا يملّ، بل تراه منشرح الصدر، وبخاصة إذا كوفئ على عمله أو كسب في تجارته، فمن باب أولى ألاّ يكلّ ولا يمل مِن رعاية مَن تحته وتربيتهم، ولأن الثمرة والأجر فيهم أعظم وأدوم.

25 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *