لا يكتفي أهل الباطل بالحديث والدعوة إلى باطلهم بكثرة وبثقة، بل يجتهدون في التشكيك والاستهزاء بالحق وأهله، ويصفونهم بالضلال، وذلك حتى يثبت المبطلون ويزدادوا، ويضعف الصالحون ويتـناقصوا، وتأمل أدلة على ذلك قولهم لأتباع الأنبياء: (إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا فِی ضَلَـٰلࣲ كَبِیر)، بل قولهم لنبيهم: (إِنَّا لَنَرَاكَ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِین)، قال ابن كثير: “وَهَكَذَا حَالُ الْفُجَّارِ إِنَّمَا يَرَوْنَ الْأَبْرَارَ فِي ضَلَالَةٍ“، وقال السعدي: “فلم يكفهم – قبحهم اللّه – أنهم لم ينقادوا له، بل استكبروا عن الانقياد له، وقدحوا فيه أعظم قدح، ونسبوه إلى الضلال، ولم يكتفوا بمجرد الضلال حتى جعلوه ضلالاً مبيناً واضحاً لكل أحد“. وقيل: “وهكذا يبلغ الضّال من الضلال أن يَحسب من يدعوه إلى الهدى هو الضال! بل هكذا يبلغ التبجح الوقح بعدما يبلغ المسخ في الفطر! هكذا تنقلب الموازين، وتبطل الضوابط، ويحكم الهوى؛ ما دام أن الميزان ليس هو ميزان الله الذي لا ينحرف ولا يميل“. وتأمل كذلك قول أهل الباطل عن نبيهم: (بَلۡ هُوَ كَذَّابٌ أَشِر)، قال القرطبي: أي “يُرِيدُ أَنْ يَتَعَاظَمَ وَيَلْتَمِسَ التَّكَبُّرَ عَلَيْنَا مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ“، وقيل: “وهو الاتهام الذي يُواجَه به كل داعية، اتهامه بأنه يتخذ الدعوة ستاراً لتحقيق مآرب ومصالح“. وانظر كيف يبلغ الكِبر عند أقوامٍ منتهاه حين يردّون الحق لأنهم يرون أنفسهم سادة قومهم وأن من نصحهم هم من عامّة الناس، قال الملأ من قوم هود لنبيهم: (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ)، قيل في هذه الآية: ” كبُر على الملأ الكبراء من قومه أن يدعوهم واحدٌ من قومهم إلى الهدى، وأن يستنكر منهم قلة التقوى؛ ورأوا فيه سفاهة وحماقة، وتجاوزا للحد، وسوء تقدير للمقام، فانطلقوا يتهمون نبيهم بالسفاهة وبالكذب جميعاً في غير تحرج ولا حياء “.
وقد صدق من قال: “يأتي على أهل الحق أوقات يظنون فيها أنهم مجانين؛ من فرط الوقاحة والثقة التي يتحدث بها أهل الباطل”، قال (جوزيف غوبلز) المستشار الإعلامي لـ (هتلر): “اكذب ثم اكذب ثم اكذب، حتى يُصدقك الناس“، وبالفعل أثمر هذا الكذب المتواصل والبجاحة المتكررة ثماراً مرّة بتصديق بعض الناس للأكاذيب واتباعهم للمبطلين، فكم من فتاة تبرجت، وكم من شاب انحرف، وكم من أسرة تفككت، وكم تغيرت لدى هؤلاء النظرة إلى الدين من نظرة اعتزاز وتمسك به، إلى تشكيك في أحكامه وتملص منها.
إلا أن الباطل مهما انتشر فسيأتي عليه ما يُزهقه ، وأن الحق مهما انزوى فسيأتي عليه زمان يعلو ويزدهر، علّق الشيخ ابن باز على حديث: (بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ) رواه مسلم، فقال: “الغربة التي في آخر الزمان يكون بعدها انتشار، ويكون بعدها صلاح، ويكون بعدها قوة، ويكون بعدها اتحاد على دين الله إذا كثر الصلحاء الـمُحيـين لسنة الله، فيكون بعد الغربة قوة ونشاط واجتماع على الحق كما كان بعد الغربة الأولى. ونحن الآن في بدء هذا الصلاح والحركات الإسلامية كثيرة، تنشد الإصلاح وتطلب الخير وتطلب تحكيم شريعة الله، وتدعو إلى اتباع كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ونحن ننتظر هذا الظهور وهذا الإصلاح إن شاء الله، وسيكون قريبًا بحول الله ” موقع الشيخ [1].
وحتى نشارك جميعاً في الظهور المنتظر القريب، فلابد من تعزيز اليقين بدين الله، والتعرف على محاسنه وفضائله، والتفقه بأحكامه، والدعوة إليه، قال الإمام أحمد: “إذا سكت العالِم تقيّة، والجاهل يجهل، فمتى يظهر الحق“، وقد قيل: “سكت المؤدَّب فظنّ قليل الأدب أنه على الحق“، ثم لابد من الصبر على طول الطريق وما يعرض فيه.
إذا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الصَّبْرِ فاصْطَبِرْ عَلى الحَقِّ ذاكَ الصَّبْرُ تُحْمَدُ عُقْباهُ
[1] https://binbaz.org.sa/fatwas/1496/