لا تعليق
(صناعة الأغنياء البخلاء)
لـمّا وصل الرئيس البوسني “علي عزت بيجوفيتش” رحمه الله إلى صلاة الجمعة متأخراً على غير عادته، أفسح له الناسُ طريقاً بين الصفوف ليصل إلى الصف الأول، فلما وصل، التفت إلى المصلين وقال مقولته التي ذاعت في الآفاق: ” هكذا تصنعون طواغيتكم“.
هذه الحادثة وإن كانت تُورد في السياق السياسي إلا أنها تصلح أن تكون مدخلاً للحديث عن مشاهد تمر علينا في المجال الاجتماعي.
فعندما يأتي إلى مناسبة عائلية أو عامة ثري عُرف بالبخل، أو صاحب جاه ومنصب شحيح بجاهه، فنرى احتفاء بالغاً به من قِبل الكثير ، فإن هذا الاحتفاء سيحجب عنه الشعور بالتقصير تجاه أقربائه ومجتمعه، وسيُكرس عنده البخل بما لديه من مال، والشح بما عنده من جاه، بل قد يصل الأمر به إلى انتقاص أولئك المحتفين به والنظر إليهم شزراً، قال الشافعي رحمه الله: ” ما رفعت أحداً قط فوق قدره إلا غضَّ مني بقدر ما رفعت منه” ، ولذلك كان بعض السلف يرى عدم الاحتفاء بالأغنياء البخلاء المتكبرين، قال يحيى بن معاذ: “التكبر على من تكبر عليك بماله تواضع” وكانوا يتجاهلون أولئك الصنف من الناس، فقد قالوا “دواء من لا يُصلحه الإكرام الهوان“.
أراك تُؤمل حسن الثناء ولم يرزق اللهُ ذاك البخيل
ويكفي للدلالة على سوء صفة البخل، وأنها تُنزل من المكانة الاجتماعية لصاحبها أن النبي r قد أسقط منزلةَ رجلٍ سيدٍ في قومه بسبب بخله، فعَنْ جَابِرٍ قال: ” قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ r: مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلِمَةَ ؟ قَالُوا : الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ ، عَلَى أَنْ نُبَخِّلَهُ. فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَمَدَّ يَدَهُ : وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنَ الْبُخْلِ؟ بَلْ سَيِّدُكُمُ الْأَبْيَضُ الْجَعْدُ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ) رواه أحمد وأبو داوود.
ومن أمثال العرب: ” لأمرٍ ما يَسود من يَسود ” قال الميداني : ” أي لا يسود الرجلُ قومَه إلا بالاستحقاق ” ويعنون بذلك أي بما في ذلك السيد من جميل الخصال، وبما يُولي قومه من الإحسان والإفضال. وقد سُئل ابن عمر t عن السؤدد، فقال : “الحلم والجود” وقال علي بن عبدالله بن عباس: “سادة الناس في الدنيا الأسخياء” .
فبأي شيء سَوّد بعض الناس أولئك الأغنياء البخلاء؟!
* * * *
لقد عنيَ الإسلام بغرس قيم السخاء ونفع الناس في المجتمع، فقال الله سبحانه : (وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) وقال النبي r: ( أحب الناس إلى الله عز وجل أنفعهم للناس ) وقال : (اشفعوا تؤجروا ) وحذّر صلى الله عليه وسلم من الشح فقال : ( لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً)، وكان صلى الله عليه وسلم متحلياً بكريم الخصال وحسن السجايا حتى قبل بعثته، فعندما نزل الوحي عليه وجاء إلى زوجته خديجة رضي الله عنها وذكر لها ما حدث له، قالت له: “كلا، والله لا يُخزيك الله أبدًا؛ إنك لتَصِل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدومَ، وتَقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق“، ومعنى تَحمِل الكلَّ: أي تتحمَّل أثقال الفقراء والضعفاء والأيتام بالإنفاق عليهم وإعانتهم بالمال، وأما معنى تُعين على نوائب الحق: أي تُعين الناس فيما يصيبهم من خير أو شر. فأين أثرياؤنا من هذه الصفات الجليلة؟
ومن جميل ما يُروى من أحوال الأغنياء الأسخياء أن عبد الله بن المبارك كان يُنفق على الفقهاء، ومن أراد الحج من أهل مرو إنما يحج من نفقة ابن المبارك، وكان يؤدي عن المديون دينه ويشترط على الدائن ألا يُخبر مَدِينه باسمه.
ولأن الخير باق في أمة الإسلام؛ فقد رأى الناس وسمعوا عن أغنياء في مجتمعنا -ولله الحمد- يتولون تحجيج فقراء وحديثي إسلام، وأغنياء آخرين يُعينون كل من أراد الزواج من أقاربهم، حتى لو لم يكونوا محتاجين، وآخرين يعطون أقاربهم تخفيضاً عند العلاج في مستوصفاتهم أو الشراء من متاجرهم، وآخرين يتحملون تكاليف اجتماعات أسرهم.
ومن العجيب أن بعض السلف كانوا يحرصون على بذل المعروف حتى لو كانوا هم أنفسهم فقراء، فقد سأل سليمان القصير أحمد بن حنبل فقال: يا أبا عبد الله ايش تقول في رجل ليس عنده شيء، وله قرابة ولهم وليمة، ترى أن يستقرض ويُهدي لهم؟ قال الإمام أحمد : نعم.
أما قصص بذل الجاه والشفاعة الحسنة لمن طلبها فقد ازدانت كتب الأخبار بها، فمن ذلك أن رجلاً جاء إلى الحسن بن سهل يستشفع به في حاجة، فقضاها، فأقبل الرجل يشكره، فقال له الحسن بن سهل: علام تشكرنا ونحن نرى أن للجاه زكاة؟ وفي لفظ: ونحن نرى كَتبَ الشفاعات زكاة مروآتنا، ثم أنشأ يقول:
فُرِضت عليَّ زكاة ما ملكت يديَّ وزكاة جاهي أن أُعين وأشفعا
وكانوا يبذلون كل طاقتهم وجهدهم في قضاء حاجات السائلين، فقد ورد أن شيخ البخاري عبدالله بن عثمان عبدان قال: ما سألني أحد حاجة إلا قمت له بنفسي، فإن تمَّ وإلا قمت له بمالي، فإن تمَّ وإلا استعنَّا له بالإخوان، فإن تمَّ وإلا استعنت له بالسلطان .
وختاماً … فإن المأمول ألاَّ نُسهم في صناعة أغنياء بخلاء. وذلك بالحفاوة البالغة بهم، وهم لا يُعينون قريباً ولا سائلاً، ولا يقضون حاجة مكروب، ولا يُسهمون في مشاريع الخير، وذلك حتى لا نزيد من انصرافهم عن أعمال البر، ونحرم المجتمع من بذلهم وعطائهم.
[1] نشر على الشبكة العنكبوتية بتاريخ 4/7/1438
لا تعليق