مُدَوّنة منصور بن محمد المقرن

لا تعليق

شاع مؤخراً استخدام مصطلح “العالَم أو المجتمع الافتراضي” للتعبير عن الأشخاص والبيئات التي يتعامل معها عبر الإنترنت مستخدمو الهواتف الذكية.

فقد أصبح من المألوف أن ترى واحداً يجلس بجسده مع أناسٍ وهو في نفس الوقت يعيش ويتواصل بقلبه وسمعه وبصره عن طريق هاتفه مع بيئة وأشخاص آخرين؛ فالجسد حاضر والقلب غائب.

 وقبل مئات السنين عاش شعراء عشاق ما يشبه ذلك المجتمع الافتراضي؛ فقد عبّروا عن أحوالهم، وكيف أن الواحد منهم يعيش مع الناس بجسده أما قلبه فمَع محبوبته، يتراءى بصرُه جمالَها، ويتردد على سمعه كلامها.

يقول أحدهم:

وإن يرتحل جسمي مع الركب مكرها

يقم عنده قلبي وأمضي بلا قلب

ويرى آخر أن قرب الناس أو بعدهم عنه لا يُغيّر من حاله ما دام قريباً من محبوبته، فيقول:

وما بكِ إن بعدوا وحشة          ولا معهم إن بعدت اجتماع

بل وصل الأمر بشاعر متيم أن عاش – عفا الله عنه – عالَـماً افتراضياً في صلاته فقال:

و والله لا أدري متى ما ذكرتها        أثنتين صليت الضحى أم ثمانيا

 إلا أن ابن القيم -رحمه الله-يطرح ما يُسمى الآن بالعالَم أو المجتمع الافتراضي برؤية مختلفة ومن زاوية إيجابية جميلة، وذلك في معرض حديثه عن العزلة والخلطة، والضابط في أمر الخلطة، وخاصة عند كثرة فساد الناس، حيث يقول: (والضابط النافع في أمر الخلطة: أن يخالط الناس في الخير كالجمعة والجماعة، والأعياد والحج، وتعلم العلم، والجهاد، والنصيحة، ويعتزلهم في الشر وفضول المباحات. فإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في الشر، ولم يمكنه اعتزالهم: فالحذر الحذر أن يوافقهم، وليصبر على أذاهم) ثم يقول: ( وان دعت الحاجة إلى خلطتهم في فضول المباحات، فليجتهد أن يقلب ذلك المجلس طاعة لله إن أمكنه( إلى أن يقول في كلام نوراني– وهو موضع الشاهد، وهو ما يغفل عنه الكثير أيضاً – ( فإن أعجزته المقادير عن ذلك؛ فليَسِلَّ قلبَه من بينهم كَسَلِّ الشعرة من العجين، وليكن فيهم حاضراً غائباً، قريباً بعيداً، نائماً يقظاناً، ينظر إليهم ولا يبصرهم، ويسمع كلامهم ولا يعيه، لأنه قد أخذ قلبه من بينهم ورقى به إلى الملأ الأعلى؛ يسبح حول العرش مع الأرواح العلوية الزكية).

ويرى رحمه الله أن هذه العزلة الشعورية ليست سهلة على النفس بل لابد من توسل وتضرع إلى الله تعالى للوصول إليها، حيث يقول: ( وما أصعب هذا وأشقه على النفوس، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، فبين العبد وبينه أن يصدق الله تبارك وتعالى، ويديم اللجأ إليه ويلقي نفسه على بابه طريحاً ذليلاً) ثم يذكر ما يتحقق به ذلك الارتقاء الإيماني فيقول: ( ولا يُعين على هذا إلا محبة صادقة، والذكر الدائم بالقلب واللسان، وتجنب مفسدات القلب) وهي كما أوردها “كثرة الخلطة والتمني والتعلق بغير الله والشبع وكثرة النوم“، ثم قال: ( ولا يُنال هذا إلا بِعُدةٍ صالحةٍ، ومادة قوة من الله عز و جل، وعزيمة صادقة، وفراغ من التعلق بغير الله تعالى ).

 إن الحاجة إلى العزلة الشعورية الوجدانية التي ذكرها ابن القيم، تزداد كلَما قلَّ وجود الرفقة والمجالس والبيئة الصالحة، وكلما خشي المرء على إيمانه أن يضعف، وعلى قلبه أن يقسو، وعلى نفسه أن تضل.

[1] نشر بتاريخ 22/7/1437

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *