الخائفون من الهداية !

وهل يوجد أحدٌ يخاف من الهداية وفيها سعادته في الدنيا، وفوزه في الآخرة ؟

نعم، قد خاف منها قوم نوح عليه السلام، فكانوا يضعون أصابعهم في آذانهم، ويستغشون ثيابهم خشية أن يسمعوا كلام نبيهم. وخافها نفر من قريش فكان أحدهم يضع القطن في أذنيه حتى لا يسمع كلام محمد صلى الله عليه وسلم.

غير أن العجيب أن يخشى الهداية والاستقامة أقوام من المسلمين، فيعرضوا عن سماع المواعظ، ويتجنبوا مجالس الخير وأهلها، لكي لا يهتدوا فيفقدوا – في ظنهم- منصباً أو جاهاً، أو ربحا في تجارة. وقد تجد شباباً يرفض الواحد منهم الزواج بامرأة صالحة خشية أن تؤثر عليه، أو لا توافقه على ما هو عليه من الغفلة، والعكس يحدث أيضاً حين تجد شابة لا ترغب بالزواج من أي شاب صالح حتى لا يمنعها من محبوباتها المحرمة.

 

لكن ، ما الذي جعل هؤلاء يفضلون الاستمرار في حياة الغفلة على الاستقامة؟

يبدو أن أحد أهم أسباب ذلك هو اعتقادهم أن الاستقامة تحرمهم من مُتع الحياة ولذائذها، بينما هم يرغبون في الاستمتاع بها، في مرحلة شبابهم على الأقل.

ولا شك أن الاستقامة على الدين تمنع من التمتع بشهوات الدنيا المحرمة، لكنها في نفس الوقت تُسبغ على المهتدي لذائذ ونعيماً وسعادة أضعاف أضعاف ما يجده صاحب المعصية، ذلك لأن عدلَ اللهِ تعالى ورحمتَه تأبى أن تُساوي في الحياة الدنيا فضلاً عن الآخرة بين من أطاعه وبين من عصاه ، قال الله تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، سَوَاءً مَحْيَاهُمْ ومَماتُهم، ساءَ ما يَحْكُمُونَ) قال ابن كثير رحمه الله: “أي: ساء ما ظنوا بنا وبِعَدلِنا أن نُساوي بين الأبرار والفجار في الدار الآخرة وفي هذه الدار“، بل في القرآن آية أصرح في هذا المعنى، يقول تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، قال ابن كثير “والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت“.

فالله سبحانه الرحيم بعباده، اللطيف بهم، لم يجعل في أحكام دينه وشريعته ما يشق على العباد، أو يُحيل حياتهم إلى شقاء وحرمان، قال تعالى: (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)، وقال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).

كما أن الله الجواد الكريم لا يدعْ عبداً ترك محرما لأجله بلا عِوضٍٍ جميلٍ يُنسيه لذة المحرم العابرة، قال الله تعالى: (‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)، وقال صلى الله عليه وسلم : (إنك لن تدع شيئاً لله عز وجل إلا بدّلك الله به ما هو خير لك منه)، هذا البدل والعِوض يكون طمأنينة في القلب، وانشراحاً في الصدر، وقناعة في النفس، تطغى على مشاعر الحرمان الموهومة عند ترك شهوة محرمة،  قال ابن القيم رحمه الله: “وأجلّ ما يُعوّض به : الأنس بالله ومحبته ، وطمأنينة القلب به ، وقوته ونشاطه وفرحه ورضاه عن ربه تعالى“.

غير أن هذه الحقائق الإيمانية على وضوحها، والوعود الربانية على صدقها، تحتجب عند بعض المسلمين بسبب طغيان الماديات التي يعيشونها، وضعف الإيمان بالغيب وبغير المحسوسات، وقد قيل:

قد تُنكر العين نور الشمس من رمدٍ                          ويُنكر الفم طعم الماء من سقم

والمأمول من المصلحين والمربين مزيد عناية في بيان هذا، عسى الله أن يردّ بجهودهم ضال المسلمين إلى التمسك بأحكام دينهم، ليسعدوا بجمال الحياة مع الله تعالى، ويتفيؤوا ظلال الدين الوارفة، ويتذوقوا حلاوة الإيمان الضافية.

 

2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *