مُدَوّنة منصور بن محمد المقرن

(لنـنتظر حتى يرحل !)

زوجةٌ لا ترى حسنات زوجها، والزوج كذلك، وقريب لا يلحظ فضائل قريــبه، وصديقٌ لا يُثني على مروءات صديقه، ومجتمعٌ لا يحتفي بجهود مُصلحيه، فإذا اختطف الموتُ أولئك المنسيين؛ أفاق الغافلون؛ فأطلقوا الألسن، وسطروا المقالات، وكتبوا المرثيات في الثناء عليهم، والإشادة بأعمالهم، وترديد مآثرهم. قال الروائي يوسف السباعي: “نحن شعب يُحب الموتى، ولا يرى مزايا الأحياء حتى يستقروا في باطن الأرض“.

ترك الثناء على منجزات أو خصال الآخرين وهم أحياء أمرٌ مشاهد ومتكرر في مجتمعاتنا، رغم أن سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم بل ومعالي الأخلاق على خلاف ذلك.

فقد امتدح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صحابته مرات عديدة؛ فمنها قوله عن أبي بكر رضي الله عنه: (ما نفعَنِي مالٌ قطُّ ، ما نفعَنِي مالُ أبي بَكرٍ)، وقال عن عمر رضي الله عنه: (ما لَقِيَكَ الشيطانُ قَطُّ سالكًا فَجًّا إلَّا سَلَكَ فَجًّا غيرَ فَجِّكَ)وقال لأُبي بن كعب رضي الله عنه: (لِيَهنِكَ العِلمُ أبا المِنذِرِ)، وقال لأشج


عبد القيس رضي الله عنه: (إنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُما اللَّهُ: الحِلْمُ، والأناةُ)، وأثنى صلى الله عليه وسلم على عموم المهاجرين والأنصار وغيرهم، فمحبة الثناء طبيعة بشرية، وقد قيل:    

يَهوَى الثّناء مُبرِّزٌ ومُقصّرٌ                      حُبُّ الثّناءِ طبيعةُ الإنسان

وغني عن القول أن الثناء المقصود هو السالم من الكذب أو المبالغة في الممدوح، أو أن يتخذه المادح بضاعة وتجارة. وعليه فإن من فوائد الثناء بحق: أنه يُحفِّز الممدوح على الاستزادة من ما مُدح به، ويُشجع الآخرين على الاقتداء به، قال شوقي:

رُبَّ مدحٍ أذاع في الناس فضلًا                          وأتاهم بقدوة ومثال

والثناء بحق يُقارب ويؤلف بين قلوب الناس، ويُنمي في المادِح محبة الخير لإخوانه ، ويُبعِد عنه الحسد، وقد قيل: “حجبُ الثناءِ مع الاستحقاقِ حسدٌ وافتراء“.

وقد يكون أحد أسباب إحجام بعضنا عن الثناء على منجزات الآخرين أو خصالهم الحميدة وهم أحياء هو: خوف الفتنة عليهم، ويُستشهدُ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل مدح أخاه: (وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ) متفق عليه، قال ابن بطال:  “حاصل النهي أن من أفرط في مدح آخر بما ليس فيه لم يأمن على الممدوح العجب لظنه أنه بتلك المنزلة ، فربما ضيع العمل والازدياد من الخير اتكالاً على ما وُصف به“، وقال الغزالي في الإحياء عن أثر المدح على الممدوح: “أنه لا يأمن أن يُحدث فيه المدحُ كِبراً أو إعجاباً، أو يَكِله على ما شهره به المادح فيفتر عن العمل، فإن سلِم المدحُ من هذه الأمور لم يكن به بأس وربما كان مستحبا).كما قد يُستشهدُ أيضاً على ترك الثناء على من يستحقه بقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم المَدَّاحِينَ، فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ) رواه مسلم، قال ابن بطال: “تأول العلماء أن المراد من يمدح الناس في وجوههم بالباطل، وأما من مُدح بما فيه فلا يدخل في النهي؛ فقد مدح صلى الله عليه وسلم في الشعر والخطب والمخاطبة ولم يحثُ في وجه مادحه تراباً“. وقال العتبيّ: “هو المدح بالباطل والكذب، وأمّا مدح الرجل بما فيه فلا بأس فيه“، وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي: “فأما من مدح الرجلَ على الفعل الحسن والأمر المحمود يكون منه ترغيبًا له في أمثاله، وتحريضًا للناس على الاقتداء به، فليس بمدَّاح“.

من جهة أخرى، فإن الواجب على من أُثني عليه بحق: أن يحمد الله تعالى على ذلك، وينسب الفضل لله وحده، فقد قيل “الفضلُ لمن منحكَ، لا لمن مدحك“، ويسأل ربه الثبات، ويرجو أن يكون ذلك عاجل البشرى له، ويتعلق بالمنعم عليه سبحانه ألاّ يقطع عليه أفضاله وإحسانه.

لا توجد أراء حول “لنـنتظر حتى يرحل !”
  1. صدقت ابا محمد، ومن الأمثلة المقلوبة قول (( الله لا يظهر غلاك))، إن لم يظهر الغلا في حياته فما فائدة إظهار بعد موته..

      1. نعم ابا محمد أحسنت الاختيار
        بحاجة إلى مثل هذه الكلمات والتوجيهات الماديات طغت علينا وافقدتنا طعم الحياة وطعم العلاقات مع من نحب إنها المادة والترفوالتي في غالب الأحوال أنها أصبحت نقمة عندما فقدنا المفهوم الحقيقي لها وأنها لايمكن تعوضنا عن الألفة والمحبة والعطف والرحمة وحسن الظن وحسن التجاوز.

        بارك الله فيكم ونفع بعلمكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *