يا من عَثَرَ مِراراً !
أحدهم يلاحظ أي خدش يصيب سيارته مهما كان صغيراً، وينتبه لأي بقعة تصيب ثوبه مهما كانت خافية، وإحداهن تلاحظ وتـتابع أي تغيّرٍ في جسدها كتساقط شعرها، أو زيادة وزنها مهما كان يسيراً .. ولا شك أنه لا حرج في كل هذا، لكن الغريب أنهم لم يلاحظوا فضلاً أن يهتموا بأولى وأعظم من ذلك: وهي التغيّرات السلبية والعثرات الكثيرة التي حدثت في قلوبهم وسلوكهم!.
يُشير ابن الجوزي – بطريقة جميلة- في كتابه صيد الخاطر إلى صورة من صور اهتمام وملاحظة بعض الناس إلى عثراتهم وإخفاقاتهم المادية، وغفلتهم عن ملاحظة عثراتهم وتراجعاتهم القلبية والسلوكية، فيقول: “رأيتُ كلَّ من يعثر بشيء أو يزلق في مطر يلتفت إلى ما عثر به، فينظر إليه … إمّا ليَحذر منه إن جَازَ عليه مرة أخرى، أو لينظر ـ مع احترازه و فهمه ـ كيف فاته التحرز من مثل هذا .. فأخذتُ من ذلك إشارة وقلت : يا من عثر مراراً، هلاّ أبصرت ما الذي عثّرك فاحترزت من مثله، أو قبّحت لنفسك تلك الواقعة … فالعجب لك، كيف عثرت بمثل الذنب الفلاني و الذنب الفلاني؟“، ولم تنـتبه له ولم تـتب منه!.
لكن كيف يعرف المرء بأنه تغيّر تغيراً سلبياً ليس في سلوكه واستقامته فحسب بل في مفاهيمه وقناعاته وهي الأخطر؟.
يجيب على هذا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فيقول: “من أحب منكم أن يعلم أصابته الفتنة أم لا، فلينظر : فإن رأى حراماً ما كان يراه حلالاً، أو يرى حلالاً ما كان يراه حراما، فقد أصابته” صحيح الجامع.
ومما يدفع المرء لأن يراجع أحواله وإيمانه، أنه لا أحد يسلم – غير الأنبياء- من فترات ضعف وغفلة، حتى الصحابة رضوان الله تعالى عنهم عاتبهم ربهم، فكيف بغيرهم؟! قال الله تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) الحديد – 16 ، قال ابن مسعود رضي الله عنه: “”ما كانَ بيْنَ إسْلَامِنَا وبيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بهذِه الآيَةِ إلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ” رواه مسلم
سؤال آخر: لماذا يرى بعض الناس أنهم في أحسن حالاتهم الإيمانية، ولا يشعرون بتقصيرهم وتراجعهم؟. في القرآن الكريم إجابة وافية، قال الله تعالى: (أَفَمَن زُيِّنَ لَهۥ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَنا) فاطر – 8، “هذا هو مفتاح الشر كله .. أن يُزيّن الشيطان للإنسان سوء عمله فيراه حسناً. أن يُعجب بنفسه وبكل ما يصدر عنها. ألاّ يفتش في عمله ليرى مواضع الخطأ والنقص فيه، لأنه واثق من أنه لا يُخطىء! متأكد أنه دائماً على صواب! مُعجب بكل ما يصدر منه! مفتون بكل ما يتعلق بذاته. لا يخطر على باله أن يُراجع نفسه في شيء، ولا أن يُحاسبها على أمر. وبطبيعة الحال لا يُطيق أن يراجعه أحدٌ في عملٍ يعمله أو في رأي يراه، لأنه حَسنٌ في عين نفسه، مُزيّن لنفسه وحِسه، لا مجال فيه للنقد، ولا موضع فيه للنقصان!“
- ختاماً .. فإن من أعظم العقوبات التي تُصيب العبد: أن يُنسيه الله تعالى نفسه فلا يلاحظ تقصيرها، بسبب نسيانه حق الله تعالى عليه، فإن الجزاء من جنس العمل، قال سبحانه: (نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) الحشر – 1، قال ابن القيم في كتابه الداء والدواء: “أمّا إنْساؤُهُ نَفْسَهُ، فَهُوَ: إنْساؤُهُ لِحُظُوظِها العالِيَةِ، وأسْبابِ سَعادَتِها وفَلاحِها، وإصْلاحِها، وما تَكْمُلُ بِهِ بِنَسْيِهِ ذَلِكَ كُلِّهِ جَمِيعِهِ فَلا يَخْطُرُ بِبالِهِ، ولا يَجْعَلُهُ عَلى ذِكْرِهِ، ولا يَصْرِفُ إلَيْهِ هِمَّتَهُ فَيَرْغَبُ فِيهِ، فَإنَّهُ لا يَمُرُّ بِبالِهِ حَتّى يَقْصِدَهُ ويُؤْثِرَهُ. وَأيْضًا فَيُنْسِيهِ عُيُوبَ نَفْسِهِ ونَقْصَها وآفاتِها، فَلا يَخْطُرُ بِبالِهِ إزالَتُها. وَأيْضًا فَيُنْسِيهِ أمْراضَ نَفْسِهِ وقَلْبِهِ وآلامَها، فَلا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ مُداواتُها، ولا السَّعْيُ في إزالَةِ عِلَلِها وأمْراضِها الَّتِي تَـئُولُ بِها إلى الفَسادِ والهَلاكِ، فَهو مَرِيضٌ مُثْخَنٌ بِالمَرَضِ، ومَرَضُهُ مُتَرامٍ بِهِ إلى التَّلَفِ، ولا يَشْعُرُ بِمَرَضِهِ، ولا يَخْطُرُ بِبالِهِ مُداواتُهُ، وهَذا مِن أعْظَمِ العُقُوبَةِ العامَّةِ والخاصَّةِ“.
المقال على قناة التليجرام:
https://t.me/mafahiem
بارك الله فيك ابامحمد
مقال يستحق التأمل.
وبارك الله فيك وفيمن تحب
رائعه من روائع ادبياتك يا ابا محمد👍👍👍
أهلا ومرحبا أبا هيثم
شكرا لمروركم العطر
جزاكم الله خير الجزاء ، ونفع بكم المسلمين ،
من الامور التي تعين على تفقد عثرات النفس ،أمران:
الأول تفقد حاله في استجابته وسرعته وانشراح صدره في أداء العبادات المفروضة وسننها وبالذات الصلوات المفروضة.
الثاني طلبه النصيحة من اخوته ، وسماعها وتدبرها ، ومراجعة حاله على صوئها، وهذا يتطلب من الجميع المبادرة بالنصيحة بضوابطها حتى لو لم يطلبها الاخ من أخيه ،
جزاكم الله خير
حياك أبا مجاهد
أشكر لك تعليقك الثري