(السخرية بالنفس !)

كان يسخر ممن يُعفي لحيته طاعة لربه؛ فلمّا أعفى لاعبٌ شهيرٌ لحيته أعفى لحيته بلا تردد، وفتاة كانت تسخر ممن تلبس القفازات حياء؛ فلما قادت السيارة لبست القفازات حتى لا تُسوِّد الشمسُ يديها، وشابٌ كان يعيب على من يُقصِّر ثيابه؛ فلما ظهرت موضة تقصير البناطيل بين مغنين ومشاهير سارع للتشبه بهم.

أيها السادة .. هذه الحالات وأمثالها تُوحي بأن مكانة الموضة وسلوك المشاهير – عند هؤلاء الأشخاص ونحوهم – أعلى بكثير من مكانة الدين والالتزام بأحكامه، كما أنها تُعطي انطباعاً عنهم أن قناعاتهم وقراراتهم تخضع وتتبع غيرهم، فليسوا أهل إرادة مستقلة ورأي خاص، بل هم أتباع كل شهير حتى لو كان بعيداً عن الدين وقيم المجتمع، وهم كذلك منقادون بلا تفكير لأي موضة جديدة فلا يستطيعون الفكاك عن سطوتها. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (لا يكُنْ أحَدُكمْ إمَّعَة، يقول: أنا مع الناس، إن أحْسنَ الناسُ أحسنتُ، وإن أساؤوا أسأتُ، ولكن وَطِّنُوا أنفسكم إن أحسنَ الناسُ أن تُحْسِنُوا، وإن أساؤوا أن لا تَظلِمُوا).  

والسؤال الأهم هنا: كيف وصل هؤلاء إلى هذه الحالة من تغييب عقولهم، وسلب إرادتهم، ومصادرة حرياتهم من الآخرين؟!

قد يكون أحد الأسباب هو: الاغترار بالأكثرية، والاستسلام لضغط سلوكها وأفكارها، واعتبار كثرتهم دليلاً على الصواب، أو اتخاذها ملاذاً آمناً يمنع أو يخفف من تأنيب الضمير عند اتباع السلوكيات والأفكار الخاطئة، وقد ورد في القرآن التحذير من اتباع الأكثرية، فقال الله تعالى: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ)، وقال سبحانه (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)، وفي المقابل فإن لفظ الأقلية في القرآن يرد للثناء عليها، قال الله تعالى: (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)، وقال سبحانه عن قوم نوح عليه السلام: (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)، وقد فقه ابن مسعود رضي الله عنه هذا المعنى، ونبذ (سلوك القطيع)، فقال كلمته المشهورة: “الجماعة ما وافق الحق، وإن كنتَ وحدك“.

وقد يكون من أسباب هذه الحالة أيضاً: الرغبة في اتقاء سخرية وتهكم الأكثرية الخاطئة عند مخالفتهم، وهذا السبب وإن كان أثراً من آثار السبب السابق إلا أنه يشي باهتزاز في الثقة بالنفس، وضعف القناعة بخطر مجاراة الأكثرية الخاطئة، وكذلك ضعف العلم بوجوب الالتزام بالأحكام الشرعية مهما كان عدد الملتزمين بها.

وعموماً، وفي كل الأحوال، فإن تعزيز الانتماء للإسلام والاعتزاز به، وتعظيم الله تعالى ومحبته، والخوف منه وتذكر لقائه وحسابه سبحانه؛ وتربية النفس على كل ذلك؛ يُثمر لدى العبد –بلا ريب- تقديم محبوبات الله عز وجل على محبوباته ومحبوبات الناس، مهما كانت أحواله، أو أحوال من حوله.

14 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *